-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يوم للعلم وقرون من الجهل

الشروق أونلاين
  • 1090
  • 0
يوم للعلم وقرون من الجهل
ح.م

ليس للوجود الإنساني معنى إلا بالعلم، فالعلم هو قرين الإيمان كما يقول الله تعالى : ” يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أونوا العلم درجات والله بما تعلمون خبير”، والعلم طريق إلى الجنة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة “، فالعلم هو سر الوجود الإنساني، هذه حقيقة تقررها الفطرة الإنسانية، ويقررها أيضا العقل الإنساني.

إن بعض خصوم الفطرة وخصوم العقل يجعلون من العلم نافلة يؤدونها إذا شاؤوا ويزهدون فيها إذا أرادوا ثم يدعون بعد ذلك بأنهم تنويريون وعلميون وليس بينهم وبين العلم نسب ولم يتصلوا به بسبب. إن العلم ليس نافلة وإنما هو بمنطق العقل السليم الوسيلة والغاية في آن واحد والمعيار الذي يتميز به الأحياء من الأموات.

إن الناظر في أحوال الأمة العربية والإسلامية يرى عجبا، أمة تستورد العلم كما تستورد الغداء والدواء وكأنما كنب عليها أن تظل تابعة لغيرها، قابعة في جهلها، مقودة غير قائدة، ومقلدة غير رائدة، أمة فرطت في مجدها الحضاري لقرون ورضيت أن تكون مع “الخوالف” من الأمم التي لا يمثل العلم بالنسبة لها شيئا مذكورا بل أكبر همها ومبلغ علمها أن تضمن ما يقيم أودها ويجنبها وأهلها السنين العجاف.

“ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”، وليس بالخبز وحده تحيا الأمم وإلا استوت في ذلك مع الأنعام التي تصارع من أجل إشباع هذه الغريزة وقد تدفع حياتها في بعض الأحيان فداء لهذه الغريزة الغالبة. إن ما يصنع الفارق بين حياة الأمم وحياة الأنعام أن الأنعام وجدت لحاجة بيولوجية، تأكل وترعى ولا تعبأ بعد ذلك بما يحدث حولها في عالم الورى، لم يكن هذا اختيارا منها بل قدرا إلهيا، أما الأمم فوجدت لغاية إنسانية سامية ولذلك فإن دورها في الحياة لا يقف عند الحاجات البيولوجية، ولهذا السبب شبه الله بعض الخلق في حرصهم على المادة واستغائهم عن الروح بالأنعام فقال الله تعالى : ” والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم”.

إن العلم هو الذي يصنع الفارق بين العجماوات وبين الإنسان العاقل البصير، هذه حقيقة لا تقبل الجدل، آمن بها المسلمون نظريا وكفروا بها عمليا وليس أدل على ذلك من المراتب المتدنية التي تحتلها الدول العربية والإسلامية في الترتيب العالمي على جميع المستويات المالية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية، فواردات الدول العربية هي الأكبر بين الواردات العالمية ليس مقارنة بدول العالم الأول بل مقارنة ببعض دول العالم الثالث، والاقتصاديات العربية هي الأضعف بين الاقتصاديات العالمية رغم أن الخبراء الاقتصاديين يقولون إن الموارد الطبيعية في الدول العربية والإسلامية هي الأعلى والأغنى في العالم، والمنظومات الاجتماعية العربية والإسلامية بدورها هي الأضعف بالرغم من أنها نمتلك تراثا اجتماعيا غنيا جعلت منه بعض الدول الغربية مرجعا لتأسيس وتصحيح منظومتها الاجتماعية، وحسبي هنا أن أشير إلى أن مؤسس “فيسبوك” ” مارك زوكربيرج ” قد جعل من مقدمة ابن خلدون ونظريته حول العمران البشري منطلقا لدراسة ظاهرة صعود وسقوط الأمم، هذا في الوقت الذي يكتفي فيه ورثة التراث الخلدوني من الأكاديميين العرب والمسلمين بتكرار واجترار الفكر الخلدوني في ندوات وملتقيات علمية ينفض فيها المجتمعون على توصيات واهية وربما وهمية تنتهي في لحظتها. إن الأدهى من ذلك أن تجد الدول العربية والإسلامية أو أكثرها في السنوات الأخيرة هي الأولى في معدلات الجريمة الاجتماعية والفساد الأخلاقي وهذا رغم أنها تنتسب إلى دين قيم يعطي الأولوية القصوى لبناء الإنسان بناء أخلاقيا ” فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. لست من الذين يقولون ” هلك الناس” لأنني وقاف عند قول النبي صلى الله عليه وسلم : ” من قال هلك الناس فهو أهلكم”، ولكن من الحقائق التي لا يجب إنكارها أننا بلغنا في دركات الفساد الأخلاقي مبلغا خطيرا ينذر بانحلال أخلاقي مجتمعي لا تنفع معه بعد ذلك مناهج الترقيع التي دأبنا عليها، إنه ليحز في نفسي أن تجد بعض شبابنا عابثا لاهيا مجاهرا بالفساد الأخلاقي لا يمتثل لرادع من دين وقانون ولا وازع من ضمير في الوقت الذي نرى فيه في طوافنا ببعض الدول العربية وأمريكا شبابا واعيا قل بينهم المنحرفون والمجرمون فهل نجح رجال الكنيسة فيما أخفق فيه رجال المسجد ؟ أقول هذا لأن الفساد الأخلاقي عندنا في وسط الشباب والمراهقين لم يعد سرا يخفى وإلا حملناه على الحديث :” كل أمتي معافى إلا المجاهرين” بل إن هذا يحدث هذا أمام مرأى الجميع وأمام مرأى التربويين والنفسانيين والاجتماعيين والوعاظ على وجه الخصوص فيتعاملون مع هذه الظاهرة الخطيرة والمرض العضال بمهدئات لا تسمن ولا تغني من جوع حتى إذا استشرى الفساد الأخلاقي وجدتهم يرفعون عقيرتهم ويتنصلون من المسؤولية ويلقون باللائمة على غيرهم.

من المسيء للعلم ومن المسيء لرائد النهضة الإصلاحية في الجزائر ” عبد الحميد بن باديس” أن يخنزل بعضنا الاحتفال بالعلم في يوم يجترون ويسترجعون فيه أقواله ويحتفون فيه بآثاره ومآثره في تربية الجيل ثم يخلدون بعد ذلك إلى “كهفهم” ليكملوا سباتهم إلى أن يحول الحول بمجيء ذكرى جديدة في العام القادم.

إن الاحتفال الحقيقي بالعلم يقتضي أن يؤمن ورثة الفكر الباديسي بأن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد نذر حياته لتربية الجيل الذي يحمل في نفسه عقيدة صحيحة ووطنية صادقة وقد أكمل هذه المهمة من بعده إخوانه في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من محمد البشير الإبراهيمي إلى أحمد حماني إلى عبد الرحمن شيبان إلى علي مغربي إلى عبد الرزاق قسوم، هذا الأخير الذي يحافظ بمعية قيادة وقاعدة الجمعية على نهجها السلفي الباديسي الجزائري الذي لا يرى تضادا بين الحياة للإسلام والحياة للجزائر عملا بمقولة القائد التاريخي الرمز ” الشيخ عبد الحميد بن باديس” : ” لمن أعيش؟ أعيش للإسلام وللجزائر”. من حقائق العمل الإصلاحي للشيخ عبد الحميد بن باديس التي تؤكدها الوثائق أن الرجل كان ينظر إلى العلم على أنه فريضة إسلامية ولهذا نجده في مقالاته في “الشهاب” و”البصائر” يركز في تربية الجيل على روح العلم وغاياته وليس على الظاهر المتبادر منه على شاكلة ما يؤمن به ويدعو إليه كثير منا، وأن الرجل كان يستحضر بمرارة واقع الأمة العربية الإسلامية التي أصابها الوهن الحضاري والاجتماعي منذ قرون من دون أن تفلح في العودة إلى مسرح الحضارة وقمة الريادة كما كانت.
جميل أن نحتفل بيوم العلم،و لكن أجمل من ذلك أن نجعل من هذا اليوم محطة لإكمال مسار وأفكار الرجل، نراجع فيها منظومتنا التربوية التي أصابها كثير من الانتحال والابتذال في غيبة الرجال حتى أضحت أمرا مستباحا يخوض فيه العالمون والجاهلون على سواء.

إن الطريقة الاستعراضية التي تميز احتفالنا بيوم العلم ليس من شأنها أن ترتقي بنا إلى مستوى الفكر الباديسي فنحن بهذه الطريقة أبعد ما نكون عن هذا الفكر بل ربما ينقلب بعضنا حياله إلى ألد الخصام ينقض عراه، يظن بأنه خادمه وهو قاتله أو شريك في الجريمة على أقل تقدير.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!