1000 ناشر في معرض الجزائر… لماذا نقرأ؟
مرة أخرى يصنع معرض الجزائر الدولي للكتاب نقاشات النخبة والإعلام حول العلاقة بين مؤشرات الإقبال على الاقتناء وطبيعته وأجناسه وفئاته الاجتماعية، وبين معدلات القراءة الفعلية بين الجزائريين بمختلف توجهاتهم، مصدّرا سؤالا جوهريّا عنوانه: هل يعكس زخم التظاهرة معدل المقروئية؟
وإذا كان التقييم من هذه الزاوية ضروريّا، فإنه لا يمكن أن يحجب النصف الآخر الممتلئ من الكأس، ولا أن يحرمنا من التفاؤل بعلاقة الجزائريين مع الكتاب بكل محتوياته، في عصر سطوة التكنولوجيا الرقمية والتفاهة على العقول.
بداية، ينبغي التذكير أن معرض الجزائر، وبعيدا عن الأرقام المتأرجحة وغياب إحصاءات رسمية دقيقة، يبقى من أهم المواعيد عربيا وحتى عالميا، من حيث توافد الجمهور وحجم المبيعات، وهذا مكسب أساسي وجب البناء عليه والتخطيط في ضوئه بالنسبة لكل المؤسسات الثقافية والتعليمية وهيئات التنشئة ذات الصلة، لأننا أمام شعب يقبل على الكتاب ويحمله إلى بيته وأولاده، ثم تأتي الأدوار الأخرى المطلوبة لتفعيل هذا السلوك واستثماره.
بهذا الصدد، هناك إجماع على الإشكال الأساسي وهو ضعف المقروئية، حيث تنزل إلى مستوى جد متدحرج، وهي ظاهرة ليست مقتصرة فقط على النطاق المحلي، بل تشيع على الصعيد العربي والقاري عموما، وقد ازداد الأمر سوءا خلال السنوات الأخيرة بفعل هيمنة وسائل الاتصال الحديثة وطغيان تأثيرات الصوت والصورة على الاهتمام البشري، ما أدى في نهاية المطاف إلى تسطيح جارف لوعي الأفراد.
لذلك، فإن الأولوية تصب رأسا في اتجاه غرس ثقافة المطالعة بين كل الأوساط الاجتماعية، حتى لا نقول إحياءها لأنها شبه ميتة، خاصة عن طريق رعاية الناشئة الصغار في طور التعليم العام وطلبة الجامعات، لأنهم عماد المجتمعات، وهم الضحية الأولى حاليا لعولمة الاتصال وتقدم أدواته التقنية.
الأمر ليس بسيطا، على خلاف ما نظن، إنه وصل إلى حد أن تهاوي القراءة لم تعد تنفع معه سوى ثورة ثقافية وتعليمية وإعلامية وتربوية وأسرية وجمعوية لتصحيح الأنساق والأذواق والتفكير، من أجل إعادة ضبط بوصلة المجتمع في علاقته بالإنتاج العقلي والعلمي والفكري، لأنّ الأمة التي لا تقرأ تزول حضاريا بين الأمم المتدافعة على ريادة البشرية.
نعتقد أن ترديد مثل هذا الكلام في المناسبات الثقافية ليس كافيا للتحسيس بخطورة الوضع الثقافي الذي نعيشه في ارتباطنا الوجداني والعقلاني والعملي بالكتاب والقراءة، بل نحن بحاجة عاجلة إلى برامج عمل واقعية، قابلة للقياس والتقييم ثم التقويم، تسهر على تنفيذه كل المؤسسات ذات الشأن بالفعل الثقافي والتعليمي والتوعوي.
ولا شكّ أنّ البداية ستكون من البيت والمدرسة والمسجد والجمعية والكشفية والمكتبات العمومية ودور الثقافة والشباب وسواها، عن طريق آليات ابتكارية جديدة وجذابة تستجيب لرهانات التحوّلات والميول وتراعي تطور الوسائل وتحوّل الاهتمام.
من غير المنطقي أن تتضاءل القراءة إلى مستوى الكم المهمل، بالاصطلاح الفيزيائي، في مجتمع يفوق تعداد تلامذته وطلابه 14 مليون مواطن، ناهيك عن ملايين المتعلمين وخريجي الجامعات، ما جعل صالون الجزائر الدولي القبلة الأولى عربيا، بعد مصر، للناشرين العرب والأجانب، وفق الأصداء المتواترة.
إنه من واجب الدولة ومسؤولية المجتمع الاستثمار المعرفي والتنموي الواعد في هذا الكم الهائل من الرأسمال البشري، ليكون رافدا فاعلا في البناء الوطني، من خلال ضمان الأمن الثقافي والفكري والديني وتحصينه بالوعي الأصيل والتشبّع بروح الانتماء الحضاري في مواجهة غزو العولمة والمذاهب الهدّامة.
عود على بدء، وإجابة على السؤال أعلاه في العنوان، فإنه من نافلة القول اعتبار القراءة وسيلة لتحصيل المعرفة والثقافة والوعي، ضمن هدف رئيسي هو المشاركة الفاعلة والنوعية في قيادة التغيير الاجتماعي وإصلاح أوضاع الدول والشعوب، لأنّها مهمة منوطة بروّاد العلم والفكر على اختلاف مستوياتهم وتأثيراتهم.
أما حين تتحول القراءة إلى غاية في ذاتها، للانزواء في عوالم الخيال بهدف التسلية أو الهروب من مواجهة الواقع، فإنها ستكون بلا جدوى حقيقية، بل هي حينها مجرد مخدّر لأفراد عديميين أو عاجزين عن صناعة الحياة، يدفعهم اليأس المقنّع إلى العيش العقلاني في بروج عاجية، متعالين فوق واقعهم التعيس وحال مجتمعهم وأمتهم المتخلفة، غير مبالين بواجبهم تجاه الصالح العام.
بل أسوأ من ذاك الصنف، فريق آخر يجعل من الثقافة والفكر والأدب مطيّة للمنافع المادية البخيسة بالتزلف على عتبات السلاطين والمسؤولين والحكومات والنظم السياسية، على حساب وظائفه العضوية في محاربة الجهل والاستبداد بكل أشكاله والفساد واحتكار الثروة والجهويات والعصبيات، حتّى يصير بوقا لها في كل المحافل الإعلامية والانتخابية والشعبية، شارحا لسردياتها ومروّجا بالباطل لأفعالها الوهمية.
إنّ القراءة واكتساب المعرفة تضعان أهلها أمام مسؤوليات أخلاقية وتاريخية في حمل الهم العام، عوض السعي الأناني للمصلحة الشخصية الضيقة، حتى قالت العرب قديما “إنّ الرائد لا يكذّب أهله”، وهو معنى قريب مما نصبو إليه في هذه الفكرة، ذلك أن قيادة التغيير والإصلاح في المجتمعات تقع على عاتق نخبها المتعلمة والمثقفة، ما يوجب عليها الالتزام بالانخراط الميداني في قضاياها العامة واليومية.
أما حين تتحوّل شهرة الكتابة إلى مطيّة ماديّة رخيصة تمنع أصحابها من الصدح بالحق في الحدود العقلانية بطبيعة الحال، وتخرس ألسنتهم عن مناصرة المستضعفين، إذ يميلون إلى مداراة الحكام والأنظمة والدوائر النافعة طمعا في الجاه والمال، فإنهم يصبحون وقتها عبئا جاثما على صدر الأمة في طريقها نحو النهضة.