-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
وقفات ومنعرجات حاسمة في حراك 22 فيفري

40 يومًا تُتوّج الجزائريين فوق منصّة التاريخ!

الشروق أونلاين
  • 2091
  • 0
40 يومًا تُتوّج الجزائريين فوق منصّة التاريخ!
ح.م

قبل 52 يومًا من إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إنهاء عهدته بشكل رسميّ، لا أحد في الداخل أو الخارج توقّع أن تجري الأحداث على النحو الذي انتهت إليه بثورة سلميّة للجزائريين، أبهرت العالم وقلبت كافّة الموازين السياسية رأسًا على عقب، مع أنّ مؤشرات الرفض الشعبي الواسع للعهدة الخامسة، ولنظام بوتفليقة عموما، كانت ملأ السمع والبصر، لكن سيناريو الحراك الحضاري بالصورة التي عاشتها البلاد على مدار 6 أسابيع لم يخطر على بال الرسميّين ولا الفاعلين ولا المراقبين.

ذلك أنه بتاريخ 10 فيفري 2019، أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نيّته في الترشح لعهدة رئاسية جديدة بعنوان استكمال الإصلاحات الكبرى، بعد شهور من الترقّب والتكهنات التي أثارتها فرضيّات التمديد تحت مسميّات ومبادرات مختلفة من الطبقة السياسية في الموالاة والمعارضة على السواء، ليهرع الكثير إلى مداومة حملة الرئيس في “حيدرة” لتقديم عرابين الولاء والوفاء والخدمة، دون أن يدور في خلدهم، ولو للحظة واحدة، أن رياح الغضب ستعصف بسفن الطمع إلى مزبلة التاريخ.

ردود الفعل على ترشيح الرئيس بوتفليقة، وهو على تلك الوضعية الصحيّة المعقّدة التي يعرفها الجميع منذ 7 سنوات، جاءت سريعة من الساسة، لتبدأ التحركات في كافة الاتجاهات قصد تعبئة الرأي العام، وقد صنعت جولات الناشط رشيد نكّاز عبر ولايات الوطن الحدث في تجنيد المواطنين، بل إنها شكّلت الشرارة الأولى لكسر حجز الخوف، وهو يجمع حوله الآلاف في خنشلة يوم 19 فيفري، على خلفية استفزازات رئيس البلديّة، ليعقبها يوميّا بتجمعات حاشدة في عنابة وميلة وقسنطينة والعاصمة وسواها.

22 فيفري.. الانطلاقة على درب الحريّة والكرامة

حينها انتبه الجزائريون إلى أن الانتفاضة ضدّ فرض الأمر الواقع ممكنة، فكانت الدعوة إلى مسيرات عامّة في أول جمعة يوم 22 فيفري، وظّل الكلّ يترّقب خروج المواطنين لقطع الطريق على العهدة الخامسة، وربّما كانت الأغلبية منهم يائسة من تحقيق الهدف.

في ذات اليوم، ومثلما جرت العادة، تهيأت قوات الشرطة في وقت مبكّر بالساحات المركزيّة للمدن الكبرى لاعتقال الوافدين الأوائل على التجمهر، لكنّ بُعيْد صلاة الجمعة، ظهر للأجهزة الأمنية ومسؤوليها أنّ الطوفان البشري لا يمكن صدّه بالتوقيف الفردي، ولا مفرّ من مرافقة الجماهير وتأمين سيْرها، لتجوب بذلك مئات الآلاف الشوارع وهي تهتف ضدّ الرئيس والعهدة الخامسة أمام إعجاب وتأييد الجزائريين وكذا دهشة السلطات العليا، والتي وجدت نفسها مُكرهة على الاعتراف بحقيقة الحراك، وإنْ حاولت الالتفاف على شعاراته ومطالبه من الرحيل إلى الإصلاح والتغيير.

لم يصدّق من شاهد تلك الصور عبر شاشات القنوات ما حصل، فعقد المتخلّفون عن مسيرة البداية النزول إلى الشارع في الجمعة الموالية، بعدما كسب الجزائريون رهان الثقة في النفس، خاصّة إثر تسريب مكالمة هاتفية يوم 28 فيفري بين مدير حملة الرئيس عبد المالك سلال ومموّلها المالي علي حداد أظهرت مدى الارتباك الذي أصاب جماعة الرئيس، فكانت جمعة الفاتح مارس أقوى وأكثر تعبيرا عن المطالب الشعبية، لتنتقل أصداء الشارع الجزائري إلى العواصم العالميّة والإعلام الدولي.

لم تمرّ الجمعة الثانية بردا ولا سلاما على مجموعة بوتفليقة، فبدأ التصدّع الداخلي بإبعاد سلال، لأسباب ما تزال في طيّ الكتمان، من إدارة الحملة الانتخابية أربع مرّات التي تولاها منذ 2004، ويعوّض بوزير النقل والأشغال العموميّة عبد الغني زعلان بتاريخ الثاني من مارس قبل أن يتكفّل بإيداع ملفّ ترشّح الرئيس رسميّا لدى المجلس الدستوري يوم 3 مارس، غير أنه فاجأ أنصاره تحت ضغط الشارع بتعهد الرئيس في حال نيله الثقة الشعبيّة بتنظيم انتخابات مسبقة، ذكرت وسائل إعلام أجنبية وفق تسريبات وردتها أنها سيتكون في غضون سنة واحدة، مع ندوة وطنية لتعديل الدستور والتكفّل بكل المطالب المرفوعة، عن طريق رسالة قرأها موكّله.

إسقاط التمديد والتأجيل في جمعة عيد المرأة

وبينما ظنّ المسيرّون للصراع مع الشارع أن تعهدات الرئيس المترشح ستمتصّ الغضب الشعبي، أو على الأقل تفتح منافذ لتقسيم المتظاهرين بين مؤيد ومتحفّظ، لكن الجواب جاء سريعا بالرفض القاطع للعهدة الخامسة مهما كانت مدتها، حيث تحوّلت المسيرات الشعبيّة في الجمعة الثالثة المصادفة للعيد العالمي للمرأة يوم 08 مارس، والتي عجّت بصور الطيّار حسان بن خدّة الذي قضى نحبه قبلها بأسبوع، إلى ما يشبه الاستفتاء المسبق على مقترحات الرئاسة.

وفي غضون تلك الأيام تصاعد الحراك شعبيّا وفئويّا، ليصبح حالة يوميّة مسّت كل القطاعات النخبوية من الصحافة إلى الجامعات والقضاء والتعليم، ما أثار طيش السلطات فلجأت إلى تسليط العقاب على الإعلام الحرّ بمنع السحب والإشهار عن جريدتي الشروق والبلاد.

كما لجأ وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق الطاهر حجّار إلى تقديم العطلة الربيعية للطلبة إلى يوم 10 مارس بدلاً من 21 من نفس الشهر، في محاولة لتحييد الطلبة كقوّة ضاربة في الحراك، وإبعادهم عن العاصمة.

كل ذلك لم ينفع شيئا في احتواء الشارع، بل دشّن الحراك مسارا آخر بالدخول في إضراب عام يوم الأحد 10 مارس، أسفر عن شلل شبه كامل بالمدن الحضرية الكبرى لكل المرافق الخدماتيّة، ولا سيما الخاصّة منها، لم تتوان أطراف مجهولة عن الدعوة نحو تصعيده إلى عصيان مدني، ما اضطرّ بوتفليقة لاتخاذ قراره يوم 11 مارس بتأجيل الاستحقاق الرئاسي وحلّ الحكومة مع هيئة مراقبة الانتخابات، كما تعهد بتسليم السلطة لرئيس منتخب، زيادة على تكليف نور الدين بدوي بتشكيل فريق وزاري جديد، ورافقه رمطان لعمامرة بصفته نائبا للوزير الأول ووزيرا للخارجيّة، فيما شرع الدبلوماسي العجوز الأخضر الإبراهيمي في مهمة غير معلنة للتشاور مع الطبقة السياسية وممثلي الحراك حول آليات وآفاق الندوة الوطنية التي أعلنها بوتفليقة.

لكنّ الشعب كان أكثر وعيًا ويقظة بمحاولات الالتفاف على مطالبه الواضحة، فنزل إلى الساحات في الجمعة الرابعة بالملايين يوم 15 مارس، تحت شعار “لا تأجيل لا تمديد.. الرحيل الرحيل”، رافضا جملة وتفصيلا خارطة الطريق التي اقترحها الرئيس.

وحين اشتد الخناق الشعبي على السلطة في الداخل، بعثت بوزيرها الجديد لعمامرة في جولة مكوكية نحو العواصم الكبرى، وفي مقدمتها روسيا وباريس وطوكيو، في مهمة لتقديم عرض حال حول تطورات الأحداث في الجزائر وطلب الدعم لخارطة الرئيس بحسب مراقبين.

الجيش والشعب.. خاوة خاوة”

وطيلة 7 أيام من الأسبوع الرابع، ظلّ الترقّب فيها لردّ فعل الرئيس سيّد الموقف، لم يتوقف الحراك في الشارع لحظة واحدة، حتى بلغ ذروته في الجمعة الخامسة بتاريخ 22 مارس، وثبت للجميع أن الشعب لن يتراجع عن تحقيق مطالبه كاملة دون نقصان تحت شعار “ترحلوا قاع”، وأنّ الرئيس ومحيطه المعزول لم يعد قادرا على المبادرة ولا المناورة قيد أنملة، وظهر كأنه ينتظر معجزة ما تنقذه من الهلاك، وقتها كان على القيادة العليا للجيش، وفق مسؤولياتها الدستورية والتاريخية وتحت وقع المطالب الشعبية والسياسية للمعارضة، أن تبدي موقفها مما يجري، لأن الانسداد والتعنّت المفروض يهدد سلامة الوطن، فنطق الفريق قايد صالح في الوقت المناسب يوم 26 مارس، مؤكدا أن تصوّر المؤسسة العسكريّة للحل يكمن في تطبيق المادة 102 من الدستور، أي الشغور بمقتضى الاستقالة أو العجز الطبي، وبذلك تعزّز حراك الجزائريين باقتراح الجيش الذي دخل على الخط بذكاء عال دون الوقوع في فخ الاستدراج السياسي، وهو ما دفع الجزائريين للاحتفاء بدعم الجيش الوطني في الجمعة السادسة يوم 29 مارس، تحت شعار “الجيش والشعب.. خاوة خاوة” لاستكمال المسيرة بعزيمة أكبر حتى النهاية.

وبذلك تسارعت الأحداث في الكواليس ودهاليز المخابر لإيجاد مخارج أخرى بدون بوتفليقة الذي انتهى وجوده عمليّا بإعلان موقف الجيش، لكن تحركات الجميع كانت محل رصد أمني دقيق، حيث كشف الفريق قايد صالح في بيان بتاريخ 30 مارس 2019 عن عقد اجتماع من طرف أشخاص معروفين لدى الجيش، وعد بإعلان هويتهم في الوقت المناسب، من أجل شن حملة إعلامية شرسة في مختلف وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي ضد الجيش الوطني الشعبي وإيهام الرأي العام بأن الشعب الجزائري يرفض تطبيق المادة 102 من الدستور.

أكثر من ذلك، دعا قايد صالح إلى تفعيل المادتين 7 و8 من الدستور أيضا، محذّرا المعارضة من رفض هذه الخطوة و”المساس” بالجيش.

وبالموازاة، نقل مجمع الشروق الإعلامي أن الاجتماع المقصود ضمّ الفريق توفيق وطرطاق والسعيد بوتفليقة مع عناصر مخابرات فرنسية لأجل بحث سيناريو المجلس الرئاسي الانتقالي الذي رفضه الرئيس السابق ليامين زروال.

توقيف بارونات المال ونهاية بوتفليقة

منذ فضح الجيش للمناورة التي خُططت للالتفاف على المطالب الشعبيّة، دخل حسم الحراك شوطه الأخيرة بتدشين مرحلة ليّ الأذرع، فتمّ ليلة 31 مارس توقيف رجل الأعمال علي حداد، الذي حاول العبور إلى الأراضي التونسية عبر المعبر البري لأم الطبول في ولاية الطارف عند الساعة الثالثة صباحا.

وفي اليوم الموالي، أصدرت النيابة العامة لمحكمة سيدي امحمد بالعاصمة أوامر بمنع عدد من الشخصيات وهم رجال أعمال وعدد من ذويهم من مغادرة التراب الوطني، ويتعلق الأمر بكل من: رضا كونيناف، طارق نواح كونيناف، عبد القادر كريم كونيناف، علي حداد، محي الدين طحكوت، ناصر طحكوت، محمد بعيري، عمر حداد، بلال طحكوت، محمد ولد بوسيف، إبراهيم بودينة.

وبذلك تأكد أن المعركة توشك على النهاية، إذ أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في مساء نفس اليوم نيته الاستقالة من منصبه قبل نهاية ولايته في 28 أفريل الحالي، متعهدا بقرارات هامة قبل هذا التاريخ عبر رسالة منسوبة إليه.

لكن مصادر موثوقة، أكدت لـ”الرشوق” أن الرسالة حررها شقيق الرئيس وهدفها المناورة والالتفاف على مطالب الشعب، في وقت تسرّب إشاعات مغرضة على تنحية قائد الأركان عبر قرارات مزوّرة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعل الجزائريين يعيشون ليلة عصيبة من القلق والترقّب الذي أقضّ مضاجعهم وأذهب النوم عن جفونهم.

يوم الثاني أفريل، اجتمعت قيادة الجيش مجدّدا، وساد الانطباع بأنّ ساعة الحسم قد دقّت، بتشديد رئيس أركان الجيش مساء الثلاثاء الماضي على “ضرورة التطبيق الفوري للحل الدستوري” للخروج من الأزمة الراهنة و”للمباشرة في المسار الذي يضمن تسيير الدولة”، وتابع صالح في بيان أنه “لا مجال للمزيد من تضييع الوقت”، مؤكدا أن بيان الرئاسة الصادر الاثنين الفائت بشأن استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة “صدر عن جهات غير دستورية”.

وأوضح رئيس أركان الجيش أنه “من قدامى المحاربين ولا يمكنني السكوت عما يحاك ضد الشعب من مؤامرات ودسائس العصابة”، من دون أن يحددها.

وأكد صالح وقوفه “في صف الشعب في السراء والضراء”، وأردف أن “العصابة امتهنت الغش والتدليس واستغلت قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة وتمكنت من جمع ثروات طائلة بطرق غير شرعية”.

وقال إن “العصابة تحاول هذه الأيام تهريب الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج”. وإثر هذا البيان الناري للجيش بساعتين فقط، أخطر رئيس الجمهورية رسميا المجلس الدستوري بقراره إنهاء عهدته، قبل أن يظهر في وقت متأخر من الليل على شاشة التلفزيون العمومي وهو يقدم رسالة الاستقالة إلى رجل ثقته الطيب بلعيز.

ولّى عهد بوتفليقة.. وماذا بعد؟

وبذلك يُسدل الجزائريون الستار على عشرين عامًا من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بما لها وما عليها، لكن خروج الرئيس من الحكم تضع أحلام الشعب في منتصف الطريق، وعليهم أن يكملوا بقيّة المسار بصبر وحكمة وثبات حتى الرسوّ على شاطئ الأمان.

لقد أبهرنا العالم برمته، بتحضرنا وسلميتنا وحرصنا على حاضر الجزائر ومستقبل الأجيال، بعد ما ساء ظنّ الكثير بنا من القريب قبل الغريب لأوقات طويلة، لكن التحدّي اليوم هو إحراز النصر في معركة “الجهاد الأكبر” بتجسيد مطالب الجزائريين في التغيير الفعلي نحو الرقي والحرية.

قد تتعدّد المخارج والآليات والاقتراحات حول إدارة المرحلة الانتقالية ورجالها واستحقاقاتها وأولياتها، مثلما تتباين وجهات النظر والتقييم بشأنها، غير أن الوفاء للوطن والشهداء ونضالات الشعب تقتضي من الجميع وضع المصلحة العامّة والعليا فوق كل المصالح السلطوية والحزبية والشخصية الضيقة، وأن تكون كافة الحلول والإجراءات والإصلاحات ملبيّة لانشغالات الجزائريين وتطلعاتهم، بعيدا عن المقاسات الفئوية والمناورات أو الترقيعات، لأنّ الموعد تاريخي والاستحقاق مصيري، لا يحتمل اللعب على حبال الخداع السياسي والفرقة السياسية والمساومة بالمغانم لقصم ظهر الشارع، فتضيع أحلامه كالسراب.

لقد قال الشعب كلمة الفصل وأدى ما عليه في تحرير وطن بكل مؤسساته وشرائحه وأطيافه، والمسؤولية تقع الآن على النخب عبر مختلف المستويات في ترجمة الطموحات الشعبية على أرض الواقع، عبر الحوار الوطني الواسع والتوافق الجامع والحرص على تجميع الطاقات والكفاءات دون سقوط في رغبات الانتقام وتصفية الحسابات ونزعة الإقصاء، لأنّ الجزائر بحاجة إلى كل المخلصين من أبنائها.

غير أنّ الطمع من طبيعة البشر، كما أنّ غريزة السلطة والحكم والنفوذ والمال والجاه من فطرة الإنسان، والمغانم تفتن أهل المغارم، فإنه صار لزاما على الشعب المنتصر أن يحرص الغنيمة النفيسة من عبث السارقين المتربصّين في كل مكان.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!