صلوات في محراب العام الجديد
أطل على الكون بالدماء، والأحزان، والدموع، لا بالغيث المرتقب، والحب المفقود في الربوع.
أطل العام الميلادي الجديد يجرُّ أذيال العام المنصرم، الذي شيعناه، لم نأسف عليه، كما تقول الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان.
ففي الوقت الذي كنا ننتظر من العام الميلادي الجديد أن يأتينا بالحب، جاءنا بالحرب، وعوض أن يحمل إلينا الأمل والابتسامة، حمل إلينا الحسرة والندامة.
استقبل وطننا العربي، دون باقي الأوطان، العام الميلادي الجديد بالقنابل تهدم البنيان، وبالصواريخ تفجر الأبدان، وتزرع الأحزان.
عربد الغرب النصراني فرحا بقدوم العام الميلادي الجديد، فسكب الخمور أنهارا، واعتدى على المحرمات، نساء وأبكارا، وكل ذلك باسم الوفاء للمسيح، فأين الوفاء في معاملاتكم للمسيح يا أبناء أمة المسيح؟، فالمسيح يدعو إلى الحب والتسامح، وأنتم تدعون إلى القتل، والختل، والتصادم، والتناطح، وإن لكم في ما يحدث في فلسطين، لنموذج فاضح، وكيف تكفرون بمحمد النبي الذي يؤمن أتباعه بالمسيح، فيعظمونه ويبجلونه، وتؤمنون بأتباع موسى ظلما، وهم يكفرون بكل الأتقياء، ويقتلون بغير حق الأنبياء؟
فما لكم كيف تحكمون؟ ولماذا تعلنون العداء للذين هم أقرب مودة منكم، أي المسلمون، فتحتلون أوطانهم، وتهدمون بنيانهم، وتشردون شيوخهم، ونساءهم وصبيانهم؟
ألستم أنتم من مكّن للصهاينة في فلسطين أكناف البيت، وتنفقون على تسليحهم ما تستولون عليه من مال النفط والزيت؟
فأين هي فلسفة الأخلاق التي تتشدقون بها في المحافل، وفي منابر الإعلام؟ وأين هي حقوق الإنسان التي صدعتم بها رؤوس الأنام؟
لقد فضحتكم بلداننا الإسلامية، فنزعت عنكم الأقنعة الخداعة، وأسقطت عنكم أوراق التوت المزيفة اللماعة، وها أنتم في سوق المزاد العالمي، أسوأ بضاعة.
كنا نأمل، أن يستيقظ فيكم، يا أبناء أمة المسيح، بقايا ضمير، فتكفرون عن جرائمكم بالاعتذار عن التقصير، وكنا –نتوق- عبثا- إلى أن يصحو بعض ما لديكم من عقل، فتعودون إلى جادة الصواب، وتقفون إلى جانب الحق الجذاب، ولكنكم لا تزالون تتخبطون في الظلمة وسوء العذاب.
إن ما يحدث في غزة، من قتل، وسحل، ومن هدم وردم، ومن تدمير وتهجير، لمما يذيب الصخر، فما لضمائركم قد قدت من حجر، وما لعقولكم قد تحولت إلى ما يشبه عقول البقر؟
في كل يوم يشيع الغزاويون العشرات من الشهداء، على مرأى ومسمع من كل وسائل ووكالات الأنباء؛ فيحيرنا تصريح هذا وذاك من الساسة والخبراء، بأن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها.
ويتحدث الأمريكيون والأوروبيون عن معاناة الإنسان، فيسوقون بضع عشرات من الرهائن الصهاينة المعتدين، ويتجاهلون الآلاف من الأسرى الفلسطينيين المضطهدين.
فبأي دين؟ وبأية شريعة يحكم هؤلاء المساندون للصهاينة، ويساعدونهم على ظلمهم وعدوانهم، وقتلهم وجرائمهم، دون أي شعور بالذنب؟
وأين من كل هذا، شعبنا العربي المسلم، الذي تحكمه الهوية العربية النقية، وتردعه المبادئ الإسلامية العادلة الزكية؟
ماذا يصنعون بالقرآن الذي يتعبدون به ويعلنون الانتماء إليه، وهو الذي يدعو إلى نصرة المظلوم، ونبذ الظالم والضرب على يديه؟
ما جدوى سلطانهم، وأموالهم، إن كان كل ذلك، لا يرد يد لامس، ولا يردع سلاح داعس، ولا يحمي ضعف باعس؟
انقلبت المفاهيم –والله- في عقولنا، وتقزمت المعاني، والألفاظ في موازيننا، فلم نعد نميز العدو من الصديق، ولا المعتدي من الرفيق، فضعف أمام الخِلِّ والشقيق.
هل تسول لنا أنفسنا الأمارة بالسوء، بالانتظار، مكتوفي الجيوش، ومجمدي الأسلحة، وموصدي البنوك، حتى تباد غزة عن آخرها، وتستحيل إلى خراب بباب؟
فما أشأم العرب على أنفسهم، وعلى أعدائهم ! فقد تحولت النعم التي أنعم الله بها عليهم إلى نقمة، واستحالت البحبوحة والرفاهية التي ينعمون بها إلى شقاء، وإلى خزي وندامة.
وبعد !
هل نستسلم للمصير المجهول؟ ونمكن ونملي لعصابات بني صهيون؟ أنهم ليسوا أقوى منا جاها، أو مالا، أو عتادا؟
وأنهم ليسوا أكثر إيمانا منا، أو تنظيما أو انظباطا، ولكنهم أشد وعيا منا بواقعهم على ما فيه من تناقض، وهم أكثر منا تضامنا مع بعضهم على باطلهم، فحولوا ضعفهم إلى قوة، وباطلهم إلى حق، وهزيمتهم إلى انتصار.
هم أخذوا بالأسباب، التي هجرناها، وهم تحكموا في وسائل النفوذ، والإعلام، التي جهلناها، ويشهد الله أننا نملك عكسهم، المصباح الذي بين أيدينا، والذي أطفأناه، ونحمل القرآن هادينا الذي أهملناه، فساءت أحوالنا، وتدهورت أوضاعنا، وخرج من السباق كبراؤنا، وعظماؤنا.
على أن فينا، عباد لنا أولي بأس شديد، هم الذين –والحمد لله- على أقليتهم، يقودون السفينة على هدى، ويذيقون بني صهيون كل يوم ألوانا من الردى.
ولا عبرة، بمن شذ منا، فمن شذ شذ في النار، ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾[سورة الزخرف، الآية 65].
نسوق كل هذا، لنذكر، بأن هذه المناسبات التي نعيشها، كالأعياد الدينية والوطنية، وكالأحداث العالمية كأعياد الميلاد، إنما تمثل فواصل زمنية، تدعونا إلى إخضاع واقعنا، بكل إيجابياته وسلبياته، إلى التأمل.
ومهما ادلهمت الدنيا، ومهما أظلمت في أعيننا، فإن خلف الظلمة نور سيلوح لا محالة، ووراء الأكمة ما وراءها، وأن هناك ساعة فرج سيجليها الله في وقتها، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ﴾[سورة الروم، الآية4-5].
غير أن ما يحز في قلوبنا، ويملأ عقولنا غيضا وحسرة، وكمدا، هذا التواطئ المشين مع العدو الصهيوني المعتدي، والذي يتسبب كل يوم في العديد من الضحايا، دون أن يهتز ضمير، أو يتحرك عقل بصير.
وليت التواطؤ انحصر، في الأعداء التقليديين للإسلام، فذلك أمر ألفناه، ولكن الأمر تجاوزه إلى رفيق الخندق والدرب، وإلى الشقيق في المصير والطريق.
فلو أني بليت بهاشمي خؤولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني.
في ظل عتمة هذا الليل المظلم، ونحن في محراب العام الميلادي الجديد، إننا لا نملك إلا الصلاة والدعاء كمسلمين، بأن يبزغ علينا بصيص من الحب، بدل الكثير من الحرب، وأن يكلل جهادنا بالأمل والنصر بذل الخذلان والعسر، فترتفع أعلامنا، وتعتز أقوامنا، وتعلو أقوالنا وأفعالنا.
فاشهدي يا سماء واكتبن يا وجود
إننا للحمى سنكون الخلود
ويا أيها العام الجديد !
أعطنا حبا فبالحب كنوز الخير فينا تتفجر
وأمانينا
وستخضر على الحب وتزهر.