الانكشاف الإستراتيجي للكيان الصُّهيوني

لم تكن معالم المشهد الدولي توحِي بكشف الأوهام الخادعة لإسرائيل، وفَضْح نتائج الكذبة الكبرى للصُّهيونية العالمية، وبين ذلك الوَهْم الخادع وتلك الكذبة الكبرى انبعث طيفٌ كلَمْحٍ من البصر، بقرارٍ ضُبطت عقاربُه على ساعة المقاومة، ليعلن أكبرُ جنرالٍ في العالم “محمد الضَّيف” عن الحقيقة التي تبيَّن فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر يوم 07 أكتوبر 2023م، وهو اليوم الذي جرى ترسيمه إسرائيليًّا بأنه: “الأكثر دموية في تاريخ الصِّراع، وهو مفاجأةٌ صادِمةٌ، ممَّا يقوِّض الشُّعور بالتفوُّق الإستراتيجي، وهو صدمةٌ ستبقى تعيشها الذاكرة الجماعية اليهودية”.
يظلُّ هذا التاريخ بمثابة لحظة الحقيقة التي تضغط على وَعي إسرائيل الجمعي، ويطارد مستقبلها ووجودها، إذْ تعترف النُّخبة الصهيونية بأنَّ هذه السَّنة من الحرب: “كانت أسوأ سنةٍ في تاريخ دولة إسرائيل”، معتبرين أنَّ “مستقبل البلاد يبدو غامضًا، وسط ضبابِ حربٍ طويلة، من دون هدفٍ واضح، ومن دون موعدٍ نهائي، ومن دون تكلفةٍ محدَّدة”. هي المعركة التي كانت كافيةً لإدراك الحقيقة عن هذا الكيان النازي، وتعرية السَّردية التاريخية له بالاختبار الأكبر في تاريخه، إذْ كان الطوفانُ أضخمَ عمليةٍ عسكريةٍ في تاريخ إسرائيل، والذي لم يكن منتظرًا منها إلا أنْ تتصرَّف وفق طبيعتها، وتكشف عن ثقافتها الوحشيّة، وتُعرِّي وجهها القبيح أمام العالم، مما أثار انتباهًا دوليًّا غير مسبوقٍ إلى هذه القضية التي أُرِيد لها التصفية الكاملة. لقد أفصح رئيس وزراء الكيان الصُّهيوني “نتنياهو” في أكثر من مناسبة، ومنها في خطابه أمام الكونغرس الأميركي شهر جويلية 2024م أنَّ الحرب في غزة ستنتهي فقط إذا استسلمت حماس، وألقت سلاحها، وأعادت الأسرى، وأنَّ الجيش الإسرائيلي سوف يبقى في غزة كي لا تشكِّل المقاومة أيَّ تهديدٍ عسكري، مؤكدًا رفض تسليم القطاع للسُّلطة الفلسطينية -ناهيك عن حماس- تحت شعار “لا حماستان ولا فتحستان”، ثم عزَّز موقفه بتأكيد الاحتفاظ بمحوري “نيتساريم” و”فيلادلفيا”، زاعمًا أنَّهما قد أصبحَا قضية وجودية، وأنَّ التواجد فيهما أصبح إستراتيجية لا غِنًى عنها لأمن إسرائيل. هذه التصريحات المملوءة بالغطرسة والاستعلاء لم تُطلق في هواء السِّياسة الصُّهيو- أمريكية النتنة فقط، بل رافقها غرور القوة العسكرية على الأرض، إذ حشد هذا الكيان النَّازي، ومن كلِّ أنحاء العالم نصف مليون جندي نظامي واحتياطي ومرتزق بعد 7 أكتوبر 2023م، من أجل تحقيق الأهداف الثلاثة المعلنة للحرب، وهي: القضاء على حماس، وتفكيك القدرات العسكرية للمقاومة، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بالضَّغط العسكري. بينما تمسَّكت حماس بشروطها الخمسة، وبكلِّ صلابة، وهي: الوقف النهائي لإطلاق النار، والانسحاب الكلي للجيش الإسرائيلي من غزة، وعودة النازحين إلى كلِّ القطاع، ورفع الحصار بفتح المعابر وتدفُّق المساعدات، وعقد صفقةٍ مشرِّفة لتبادل الأسرى.
في يوم 15 جانفي 2025م كتبت صحيفة “تايم أوف إسرائيل” تحت عنوان: “لأوَّل مرَّة تخسر إسرائيل الحرب”، وقالت: “هذا ما فازت به حماس في هذه الحرب”، وذكرت 14 هدفًا حقَّقته حماس على حساب إسرائيل، والتي نزلت في النهاية من شجرة غطرستها وغرورها، مرغمةً بالمعجزة العسكرية للمقاومة.
كانت هناك أهدافٌ تفصيليةٌ للعدو الصُّهيوني بزخمٍ من الخطط المتخبِّطة، والتي تؤكِّد انعدام الرؤية في إنهاء الحرب، وتحقيق الأهداف التي التزم بها، ومنها: تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وتدمير بنيتها العسكرية ومنظومات القيادة والسَّيطرة لديها، والتعهُّد بقتل كلِّ من شارك في معركة “طوفان الأقصى”، وتدمير شبكة الأنفاق الواسعة، وتحرير جميع الأسرى.
بينما أُطلِقت تهديداتٌ حكوميةٌ أخرى، بمحو غزة تمامًا من الوجود، وتهجير أهلها بالكامل، فاقترح وزير التراث الصُّهيوني إسقاط قنبلة ذرِّية على القطاع، وشدَّد وزير الأمن القومي “بن غفير” على أنَّ الاستيطان في قطاع غزة وتشجيع هجرة الفلسطينيين منه صارَا هدفيْن واقعييْن لهذه الحرب، وأضاف آخر: إقامة حُكمٍ عسكريٍّ في القطاع، واقترح آخر: تشكيل إدارةٍ أهليةٍ من العشائر للتنسيق مع العدو الصُّهيوني، وتشجيع قُطَّاع الطُّرُق على الفوضى والسَّطو على المساعدات، بعد الاستهداف الممنهج لأيِّ مظاهر حُكم في غزة، من أجل تعميق حالة الفراغ الإداري والأمني. وفي سبتمبر 2024م اقترح الجنرال إحتياط غيورا آيلاند “خطة الجنرالات” التي تقضي بإعلان شمال غزة منطقة عسكرية مغلقة، وتهجير 300 ألف من السُّكان منه بالقصف والتجويع وقطع كلِّ المساعدات، وإعدام كلِّ مظاهر الحياة. وبعد إعلان وقف إطلاق النار وعقد صفقةِ تبادل الأسرى، وفق شروط المقاومة، والتي جرت الموافقة عليها في أواخر ماي 2024م، لولا تراجع الكيان الصُّهيوني عنها، والتي دخلت حيِّز التنفيذ يوم الأحد 19 جانفي 2025م، تُثار تساؤلات الهزيمة والنَّصر بين “الحيوانات البشرية” بحسب وصف وزير الحرب السَّابق “يوآف غالانت” للمقاومة، وبين “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” بحسب زعم مجرم الحرب “نتنياهو”، مع أنَّ مؤشرات النَّصر والهزيمة تختلف من طرفٍ إلى آخر، إذْ أنها حربٌ غير متماثلة أو متكافئة، فهي لا تُقاس بحجم الخسائر المادية والبشرية فقط، إذْ الحربُ سلوكٌ شاملٌ متعدِّد الأوجه، وخسائرُها شاملةٌ ومتعدِّدةُ الأوجه كذلك. ومَع مرور الوقت، تناقصت المكتسبات العسكرية للعدو الصُّهيوني بشكلٍ مطَّرد، وهو ما يعني أنَّ كُلفة مواصلة الحرب أكبرُ بكثيرٍ من حجم العسكرية على الأرض.
ومن الخسائر المدوِّية للعدو الصُّهيوني في هذه الحرب: انهيار نظرية الأمن الصُّهيونية القائمة على الرَّدع والتفوُّق العسكري والاستخباري، وسقوط خط الدفاع الصُّهيوني مع غزة بالكامل، ووقوع مئات الأسرى بيد المقاومة، وقدْرَتها على الاحتفاظ بهم طيلة 15 شهرًا من هذه الحرب الجهنّمية، ومقتل وإصابة الآلاف من الجنود والمستوطنين الصَّهاينة، في أضخم خسارةٍ بشريةٍ في تاريخ هذا الكيان منذ تأسيسه سنة 1948م، مما دفع “نتنياهو” إلى التصريح بأنَّ: “إسرائيل في حربٍ وجوديةٍ صعبة”، في حين لخَّص السَّفير الأميركي الأسبق في “تل أبيب” دلالة ما حدث، قائلاً: “إنَّ حماس أعادت إحياء فكرة هزيمة إسرائيل بالقوَّة”.
لقد صاغ “بن غوريون” مبدأه الدفاعي منذ سنة 1953م، والذي يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية، لا تزال تمثِّل العقيدة العسكرية للعدو الصُّهيوني إلى الآن، وهي: 1/ الرَّدع: وهو إحباط أيِّ تحرُّكٍ عسكريٍّ ضدَّ إسرائيل، بضمان التفوُّق النوعي، ورسم صورة القوة التي لا تُقهر، بما يدفع أعداء إسرائيل إلى اليأس من أيِّ عملٍ عسكريٍّ ضدَّها. 2/ الإنذار المبكِّر: والذي يقوم على التفوُّق الاستخباراتي، بما يمنح الجيش الصُّهيوني استباقيةً عاليةً عن أنشطة أعدائها، وقدرتها على شنِّ الضَّربات الدقيقة والواسعة. 3/ القوَّة الهجومية: وهي نقل المعركة إلى ساحة العدو من خلال المبادرة، والضَّربات الاستباقية والوقائية، أي تبنِّي الهجوم كإستراتيجيةٍ للدفاع لمضاعفة عامل الرَّدع. إلاَّ أنه ولأوَّل مرَّةٍ تضع “معركة طوفان الأقصى” هذه الرَّكائز على محكِّ الاختبار الحقيقي، فقد فشلت أجهزة الاستخبارات في توقُّع “طوفان الأقصى”، الذي كسر أوْهام الرَّدع، مما دفع العدو إلى الاعتراف بأنَّ: “الرَّدع الأساسي لإسرائيل وصورتها كقوَّة لا تُقهر تلقَّى ضربةً في 7 أكتوبر، مما أدَّى إلى تغيُّر النظرة إلى إسرائيل، والاستنتاج بإمكان هزيمتها”.
في مقالٍ بجريدة “هآرتس” تحت عنوان: “قولُ ما لا يمكن قوْلُه.. لقد هُزِمت إسرائيل هزيمةً كاملة”، علَّق الكاتب قائلاً: “لن يتمكَّن أيُّ وزيرٍ في الحكومة من استعادة شعورنا بالأمن الشَّخصي”، وهي مفارقةٌ عجيبةٌ بين حجم العدوان والغرور بالقوَّة، وبين شعور الإسرائيليين بالهزيمة وفقدان الأمن والأمل.
ومع ذلك، لا يزال البعض يجادل في الجدوى من هذه المعركة، بسبب الكُلفة الباهظة والثمن الضَّخم الذي دفعه الشعب الفلسطيني، من التدمير الكامل لكلِّ مظاهر الحياة، والمجازر المروِّعة التي فاقت الخيال، والخسائر البشرية التي لم يتعرَّض لها من قبل، وكأنَّ مشاريع تحرير الأوطان لا تستحق التضحية الغالية أو تحمُّل الضَّريبة الباهظة. وفي يوم 15 جانفي 2025م كتبت صحيفة “تايم أوف إسرائيل” تحت عنوان: “لأوَّل مرَّة تخسر إسرائيل الحرب”، وقالت: “هذا ما فازت به حماس في هذه الحرب”، وذكرت 14 هدفًا حقَّقته حماس على حساب إسرائيل، والتي نزلت في النهاية من شجرة غطرستها وغرورها، مرغمةً بالمعجزة العسكرية للمقاومة. وفي مقالٍ بجريدة “هآرتس” تحت عنوان: “قولُ ما لا يمكن قوْلُه.. لقد هُزِمت إسرائيل هزيمةً كاملة”، علَّق الكاتب قائلاً: “لن يتمكَّن أيُّ وزيرٍ في الحكومة من استعادة شعورنا بالأمن الشَّخصي”، وهي مفارقةٌ عجيبةٌ بين حجم العدوان والغرور بالقوَّة، وبين شعور الإسرائيليين بالهزيمة وفقدان الأمن والأمل، وهو ما يطرح تساؤلاتٍ جوهريةً مهمَّةً حول أسباب هذا الشعور المتجذِّر في أعماق الشخصية الصُّهيونية، والذي يسكُن الوجدان الإسرائيلي، والعيش بهذا القلق الدائم والتهديد المستمر، فقد تسبَّبت معركة “الطوفان” في جُرحٍ غائرٍ وعميقٍ في بنيوية الكيان الصُّهيوني بشكلٍ يتعــذّر التخلُّص منه. وهناك شعورٌ عميقٌ في النَّفسية الصُّهيونية بأنَّ وجود دولتهم “إسرائيل” طارئٌ ومؤقت، وأنها استثناءٌ تاريخي شاذ، وأنها لا تحوز مقوِّمات البقاء الذاتية، فهي لا تملك واقِعًا جغرافيًّا ثابتًا، ولا حقيقةً تاريخيةً صحيحة، ولا مستقبلاً جيو سياسيًّا قارًّا، وهو الشعور الذي تجاوَز القراءات التلمودية والنبوءات التاريخية، إلى الوقائع العسكرية والسياسية التي أثبتتها معركة “طوفان الأقصى”، وتداعياتها الإقليمية والدولية على هذا الكيان. لقد أدَّت معركة “طوفان الأقصى” إلى الانكشاف الاستراتيجي للكيان الصهيوني، ويمكن رصد ثلاثة تحوُّلات كبرى أحدثتها هذه المعركة الأسطورة في جدار أكذوبة المشروع الصُّهيوني، وتاريخانية إسرائيل الكبرى، وهي: 1- انهيار الثقة التاريخية في الجيش الصُّهيوني، وتآكل قدراته على حماية الحدود المزعومة لـ”إسرائيل”، وضمان الأمن ليهود العالم في هذا الكيان اللقيط، فقد ذكرت هيئة البث الإسرائيلية بمناسبة مرور عامٍ على الحرب يوم 7 أكتوبر 2024، أنَّ 61٪ من الإسرائيليين أصبحوا لا يشعرون بالأمان في دولتهم، وهو ما دفع بالهجرة العكسية إلى أعلى مستوياتها، وهو رُبع الإسرائيليين، وهو رقمٌ قياسيٌّ مرعبٌ بالنسبة لعدد المستوطنين، مع أنَّ “بن غوريون” أول رئيس وزراء الكيان كان يقول: “الهجرة اليهودية إلى فلسطين هي دم الحياة لإسرائيل، وضمان أمنها ومستقبلها، وجوهر حياتها وروحها”.
ذكرت هيئة البث الإسرائيلية بمناسبة مرور عامٍ على الحرب يوم 7 أكتوبر 2024، أنَّ 61٪ من الإسرائيليين أصبحوا لا يشعرون بالأمان في دولتهم، وهو ما دفع بالهجرة العكسية إلى أعلى مستوياتها، وهو رُبع الإسرائيليين، وهو رقمٌ قياسيٌّ مرعبٌ بالنسبة لعدد المستوطنين، مع أنَّ “بن غوريون” أول رئيس وزراء الكيان كان يقول: “الهجرة اليهودية إلى فلسطين هي دم الحياة لإسرائيل، وضمان أمنها ومستقبلها، وجوهر حياتها وروحها”.
2- حالة الاستنزاف المزمنة للاقتصاد الصُّهيوني، بسبب الإنفاق العسكري وتأثيرات المقاومة على مجالاته المختلفة، وتداعيات ذلك على رفاهية الإسرائيليين، مقارنةً مع مستوى الرَّفاهية في دولهم الأصلية، مما يجعل هذه الحرب “الأعلى تكلفةً في تاريخ هذا الكيان”، والتي تتجاوز 70 مليار دولار، والخسائر في بعض القطاعات، مثل السياحة 05 مليار دولار، والبورصة 20 مليار دولار، وهروب 60 بالمائة من المستثمرين الأجانب من السوق الصُّهيونية، وإغلاق أكثر من 60 ألف شركة، وتسريح الآلاف من العمال، واستدعاء الآلاف من جنود الاحتياط، وتركهم لمناصبهم وأعمالهم واستثماراتهم. 3- انكشاف الكيان الصُّهيوني أمام الرأي العامّ الغربي والعالمي بشكلٍ غير مسبوق، والذي رسَّخ صورة الكيان المنبوذ دوليًّا، والملاحَق بسبب جرائم الحرب، ومجازر الإبادة، وانتهاكات القانون الدولي والإنساني.