-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدرسة الجزائرية وجذور الصراع

عيسى جرادي
  • 551
  • 0
المدرسة الجزائرية وجذور الصراع

في الجزائر.. لم نرث مدرسة وطنية -بهذا المعنى- من الاستعمار.. فالاستعمار لا يورث مدارس ولا متعلمين ولا حتى أشباه متعلمين ممن لهم صلة بالوطن.. كل ما يخلّفه من ورائه هو ركام من الجهل والخرافة والتخلف مما تقتضي إزالته جهودا مضنية ورؤية ثاقبة ومشروعا وطنيا طموحا.
وحيث يناقض وجود الاستعمار وجود هذه المدرسة.. ويتحقق بقاؤه بتغييبها.. فكل ما كان قائما إلى غاية 1962 تحديدا.. لا يتجاوز حيز هياكل مادية محدودة كانت بالأساس موجهة لاستيعاب أبناء المعمرين الفرنسيين وفئة من الجزائريين المنخرطين في المشروع الاستعماري الموصوفين بالصفوة -مقابل الأكثرية الساحقة التي ينظر لها بازدراء- ما عدا ذلك، لم يكن لعامة الجزائريين من حظ سوى مكابدة عواقب سياسة التجهيل التي تعني الحرمان من أمرين أساسيين هما عنوان الهوية الوطنية وحتى الإنسانية: التعليم باعتباره تربية وثقافة تساهمان في صياغة وإرساء شخصية الإنسان، واللغة -أعني العربية- بوصفها وسيلة التعبير والتفكير.
المعطيات الإحصائية المتوفرة عن تلك المرحلة البائسة من تاريخنا تمنحنا فرصة الاطلاع على حجم الجريمة وغورها، إذ لم يحظ سوى عدد قليل من الجزائريين بفرصة التمدرس تقابلها محاولات ذاتية لأهم رافدين تربويين –إذا جاز التعبير– هما مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. وتلك التي تتبع الزوايا أو الكتاتيب التي تنتمي إلى المساجد على ندرتها لتوفير الحد الأدنى من غذاء الفكر والروح.. وكأن من قدر الجزائريين في عصر الظلام الاستعماري أن يعانوا من سوء التغذية عقلا كما عانوه جسدا.
وستظل الأمة الجزائرية مدينة في بقائها على قيد الحياة فكرا وضميرا لهذين الرافدين اللذين بثا روح الحياة في جسد كاد أن يموت، إن لم نقل مات بعضه وبقي بعضه يصارع من أجل أن يظل حيا.

تفصح النكبة عن نفسها بتعبيرات أخرى (… رغم أن الدّين قد اعتُبر حرا، فإن التعليم الديني لم يكن مقبولا، وباسم سياسة الدمج ثم العلمنة حُدِّدت المدارس القرآنية بدقة، وروقبت مدارس الزوايا وأغلقت أو أزعجت، ونقُص عدد معلمي القرآن والمدرّسين، ومنذ ذلك الحين تقهقرت معرفة اللغة العربية الأدبية، إذ كانت لا تكاد تدرس).. يعني العربية الفصيحة.

إحاطة رقمية مختصرة تكشف معالم الصورة.. يكفي أن نذكر منها للمقارنة ما يلي (توفرت الجزائر في 1830 على ألفي مدرسة وأربع جامعات بمقاييس تلك الحقبة، تضم في مجموعها 180 ألف طالب، بنسبة أمية لا تتجاوز 27%).. ولأن الزمن الاستعماري يرتد دائما للخلف، فبدل أن يتطور إيجابيا، نراه ينتكس ليعبر عن نفسه بأرقام مفجعة، إذ استفحلت الأمية (90 % بأقل تقدير في 1954) وتآكل عدد رواد المدارس إلى حد مفزع، وإن على مستوى الصفوة الجزائرية ذاتها (إلى جانب قلة عددها: 185 مدرِّسا ثانويا، 165 طبيبا وصيدليا وطبيب أسنان، فقد كانت سيئة التوجيه: 354 محاميا أو وكيل دعاوى مقابل 28 مهندسا أو ما يماثلهم.. 1).
وتفصح النكبة عن نفسها بتعبيرات أخرى (… رغم أن الدّين قد اعتُبر حرا، فإن التعليم الديني لم يكن مقبولا، وباسم سياسة الدمج ثم العلمنة حُدِّدت المدارس القرآنية بدقة، وروقبت مدارس الزوايا وأغلقت أو أزعجت، ونقُص عدد معلمي القرآن والمدرّسين، ومنذ ذلك الحين تقهقرت معرفة اللغة العربية الأدبية، إذ كانت لا تكاد تدرس).. يعني العربية الفصيحة.

ماذا يعني هذا؟
لم تكن ثمة مدرسة للجزائريين؛ فالجزائري الأهلي يجب ألا يتعلم لكي لا يفكر ولا يثور.. وكان محكوما على ملايين الجزائريين أن يعبروا عنوة قرنا وثلث قرن من ظلام التجهيل المطبق ليُفتح لهم باب النور على الحرية والاستقلال عن المستعمِر في 1962، ويحظوا أخيرا بفرصة إعادة اكتشاف الذات الجزائرية أو ما حرموا من إدراكه.. فهل سارت الأمور على نحو سليم بعد ذلك؟

لنعد قليلا عقد الستينيات:
يومها عبّر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في بيان 16 أفريل 1964 المشهور عن صدمته من توجُّه السلطة القائمة إلى تبني نظام حكم “انطلاقا من مذاهب أجنبية” بدل استلهام أسسه “من صميم جذورنا العربية الإسلامية” بتعبيره.. هذه الجذور التي يتقدمها الإسلام واللغة العربية بالدرجة الأولى..
كانت صرخة الإبراهيمي بمثابة تنبيه إلى ما يحاك من قبل التيار الماركسي آنذاك، والذي سيتحول مع مرور الوقت إلى عائق في وجه أي محاولة لتخليصنا من التبعية اللغوية لما يعتبره البعض “غنيمة حرب”.. ولا نعلم كيف تكون لغة المستعمِر غنيمة إن لم تكن أداة استلاب وهيمنة وتمديدا مبطنا للحقبة الاستعمارية مما لا نزال أسرى له في بعض مناحي حياتنا إلى اليوم؟!
وكي لا نبخس جهود المخلصين من الوطنيين في ميدان التربية تحديدا، ممن زامنوا تلك المرحلة الحرجة من التحول، نسجِّل المبادرة إلى تحقيق جملة من الإجراءات.. منها بصفة خاصة:
– إدراج اللغة العربية في النظام التعليمي بتعميم استعمالها (إدخالها مادة في كل مستويات التعليم).
– تعريب بعض المواد الإنسانية (التاريخ والجغرافيا، والتربية المدنية والأخلاقية والدينية، والفلسفة).
– وإلى غاية 1968 أضيفت وثيقة خاصة بالبرامج الجديدة للغة العربية.

في السبعينيات
تتدخل السياسة لفرض خياراتها الأيديولوجية على المدرسة، وإن في شكل تلفيق بين مكوّنين غير قابلين للاقتران والسير معا، فهي وإن أقرت التعريب باعتباره مطلبا وطنيا لا مساومة عليه (الخيار بين اللغة الوطنية ولغة أجنبية أمر غير وارد البتة، ولا رجعة في ذلك) .. و(لا يمكن النقاش حول التعريب بعد الآن إلا فيما يتعلق بالمحتوى والوسائل والمناهج…).. فإنها من جانب آخر شرعت في فتح مسامات في كيان التربية لتمرير أيديولوجيتها الخاصة، مع ما يتبعها من ملاحق فكرية تفرغ اللغة من محتواها الثقافي– الحضاري، لتصبح مجرد حامل أبله لثقافة وافدة وغريبة على حساب ثقافة وطنية أصيلة (إن تعميم استعمال اللغة العربية، وإتقانها، كوسيلة عملية خلاقة، يشكلان إحدى المهام الأساسية للمجتمع الجزائري في مجال التعبير عن كل مظاهر الثقافة، وعن الأيديولوجية الاشتراكية.. وأوضح من هذا أن يجعل منها (أداة ثقافية وعلمية تدفع مسيرة الجزائر الاشتراكية إلى الأمام).
هكذا ستعاني المدرسة من مفارقة عدم الانسجام بين مكوناتها، بين آفاق المعرفة التي تنشدها الأمة وضغوط الأيديولوجية التي تحاصرها، ما ولّد تجاذبا أتاح حدوث تسرب أيديولوجي في مفاصل هذه المدرسة بكيفية أو أخرى، سواء أملاه قرار مركزي -سياسي بالدرجة الأولى- ينشد من المدرسة أن تكون موئلا لتوجهاته، أو بتأثير مراكز تأثير -مهما كانت طبيعتها- ليست سوى قواعد إنزال متقدمة لقوى مضادة لهوية المجتمع.

للموضوع مراجع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!