-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هكذا يجب أن يُقرأ فكر ابن باديس

هكذا يجب أن يُقرأ فكر ابن باديس

شكّل فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس مادة دسمة للوعاظ والصِّحافيين والتربويين وغيرهم، فقد وجد كل فريق ضالته فيما كتبه الشيخ في “الشهاب” و”المنتقد” بأسلوب أخاذ، يجمع بين جمال الفكرة وحسن الأسوة، فهو لا يلقي الكلام على عواهنه كما يفعل كثيرٌ من الكتاب، بل يضمّن كتاباته ما يختلج في صدره من عواطف جياشة لا يريدها أن تستقر في العقول وحسب، بل يريدها أن تتحول إلى حقيقة ماثلة في الواقع تعالج  مشكلات الأمة وتأخذ بيدها لإصلاح حالها وجمع كلمتها ولمّ شملها تحسبا لأي نازلة أو حركة معادية تستهدف وحدتها وأمنها.

يرسم هذا المقال المنهج الأقوم في قراءة فكر الشيخ بن باديس لدى كل مهتم بهذا الفكر من الوعاظ والصحافيين والتربويين وغيرهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك، بعيدا عن القراءات الشاذة التي رسمت في عقول الناس صورة خاطئة عما آمن به ابن باديس وناضل من أجله واستمات في الدفاع عنه.

هذه موعظة للشيخ عبد الحميد بن باديس عن التزام أدب الخلاف واحترام الآخر وإنصافه وعدم إبخاسه حقه: “وينبغي إذا دارت المباحثة بين الكتّاب أن تكون في دائرة الموضوع، وفي حدودِ الأدب، وبروح الإنصاف، وخيرٌ أن تقيم الدليلَ على ضلالِ خصمك، أو على غلطه، أو على جهله، من أن تقول له: يا ضال، أو يا جاهل، أو يا غالط، فبالأول تحجّه فيعترف لك، أو يكفيك اعتراف قرائك، وبالثاني تهيِّجه فيعاند، ويضيعُ ما قد يكون معك من حقٍّ بما فاتك معه من أدبٍ”.

إن فكر الشيخ بن باديس فكرٌ ثوري يروم الثورة على كل الاعتقادات الخاطئة التي لا تقيم دينا ولا دنيا ولا تنتصر لقضية. إن الفكرة التي لا تتولد عنها العزيمة على تغيير الحال وإصلاح الأوضاع فكرة محكوم على أصحابها بالفشل لأول وهلة وعند أول عثرة، وهي الحقيقة التي لمسناها من خلال تتبعنا لمسار  بعض الأفكار التي انحلت واضمحلت وانتهى أثرها في مراحلها الأولى قبل أن يشتد عودها وينتشر أثرها.

مواعظ الشيخ ومواعظ بعض وعاظنا:

إن الهدف من مواعظ الشيخ ابن باديس هو إصلاح حال الأمة؛ فالإصلاح يحتاج إلى عقل هادئ وقلب صاف لا يحمل الضغائن ولا ينصب الكمائن للمخالفين، يضع الإصبع على الجرح من غير تجريح ويعالج الخلل من غير تشهير أو تكفير أو تفسيق أو تبديع، فهذه السمات هي التي ارتقت بابن باديس وجعلته رمزا دعويا يكاد ينطبق حوله الإجماع إذا استثنينا مواقف بعض المناوئين لحاجة في أنفسهم.

لم يتخذ ابن باديس من المنبر وسيلة للتشهير والتنكير كما يفعل بعض وعاظنا وإن هذبوا ذلك بقولهم “ما بال أقوام“ عملا بالسنة بزعمهم. على خلاف ذلك، يجد بعض وعاظنا من المنبر وسيلة لإشفاء الغليل ونشر الغسيل وتوجيه السهام لمن يخالفهم في الرأي، ويشفعون ذلك بأقوال بعض شيوخهم ممن نعرف من أقوالهم وننكر وممن لا نكاد نلمس لهم في الواقع أثرا أو نسمع لهم ركزا.

هذه موعظة للشيخ عبد الحميد بن باديس عن التزام أدب الخلاف واحترام الآخر وإنصافه وعدم إبخاسه حقه: “وينبغي إذا دارت المباحثة بين الكتّاب أن تكون في دائرة الموضوع، وفي حدودِ الأدب، وبروح الإنصاف، وخيرٌ أن تقيم الدليلَ على ضلالِ خصمك، أو على غلطه، أو على جهله، من أن تقول له: يا ضال، أو يا جاهل، أو يا غالط، فبالأول تحجّه فيعترف لك، أو يكفيك اعتراف قرائك، وبالثاني تهيِّجه فيعاند، ويضيعُ ما قد يكون معك من حقٍّ بما فاتك معه من أدبٍ”. (مجلة الشهاب (244/4، فأين بعض وعاظنا من أدعياء السنة من منهج ابن باديس في الوعظ، الذين تجد في “مواعظهم” المكتوبة والمسموعة سبًّا وقدحا وغمزا ولمزا وغرورا وتعالما وتطاولا كأنما اجتمعت لهم علوم الأولين والآخرين أو كُشفت لهم الحجب فأدركوا من الحقائق المغيَّبة ما لم يدركه غيرهم.

فكر الشيخ وفكر بعض المدعين وصلا به:

قرأت آثار الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس التي كتبها أستاذنا القدير عمار طالبي فوجدت فيها فكرا ناقدا وعقلا ورعا يروم صاحبه الحق من غير مراء ولا ازدراء للخصم، لا يتعصب فيها ابن باديس لرأيه بل يتحرى الصواب من أي وعاء خرج طالما أنه مستمد من نصوص الكتاب والسنة.

وعلى خلاف ذلك  وجدنا شيوخا وأتباعا يدعون وصلا بسلفية ابن باديس يتفننون في القدح ويغالون في المدح، فمن وافقهم فهو على السنة، ومن خالفهم فقد ضل وخرج عن الملة. لقد اتّهم شيخ الجماعة السلفية في الجزائر في كلمته الشهرية كل المذاهب بـ”مخالفة السنة” ونسبهم إلى “أهل الأهواء من الرافضة والجهمية”، والغريب أنه يطوّع النصوص لتوافق ما يراه لا ما يراه الشرع ليقنع بعض من أبطأ به عقله ويوهمه بأنها الحقيقة الناصعة والحجة الدامغة. وقد أثارت كلمته موجة من الرفض من العلماء والدعاة الذين ساءهم ما قرأوا مما لا يمتُّ إلى منهج السلف بصلة، وخرج علينا الشيخ برد أكثر قبحا وقدحا وتعصُّبا لرأيه، لأن الغرور الذي يملأ قلبه منعه من الاعتراف بخطيئته والإقرار بزلته.

لم يُؤثر عن الشيخ ابن باديس أنه كفَّر جماعة إلا بحقها ممن نكبوا عن الصراط واختاروا طريق الغواية وهجروا السنة وتمسكوا بالبدعة من أتباع الطرقية المارقة الضالة المضلة التي شوهت الدين وحوّلته إلى طقوس شركية وأعمال بدعية ما أنزل الله بها من سلطان.

حارب ابن باديس الطرقية ولم يحارب الزوايا:

لقد سخّر الشيخ ابن باديس جل جهده لمحاربة الطرقية التي أفسدت الدين وابتدعت فيه ما لا يمتّ إليه بصلة، واتخذت من الشعوذة طريقا لابتزاز الآخرين وسلب أموالهم. ويشن بعض إخواننا ممن ينتسبون إلى التيار السلفي حملة شعواء على الزوايا مخلطين بين عملها التنويري والعمل التدميري الذي قامت به  الزوايا الطرقية التي آثرت التخندق مع الاستعمار وفضّلت سلوك طريق الغواية وهجر طريق الهداية وأحدثت بلبلة كبيرة في عقول الدهماء ممن لا يسعفهم مستواهم من كشف ما يبيِّتون وما يخططون وما يعتقدون مما يخالف عقيدة التوحيد. لا يصرح بعض شيوخ التيار السلفي بمعاداة الزوايا ولكن كلامهم وخطبهم  تتضمّن ذلك، ولا يحتاج إدراك ذلك إلى كثير جهد ممن يحسن قراءة ما وراء السطور.

حارب ابن باديس غلاة الصوفية ولم يحارب التصوف:

جل كلام شيوخ السلفية في المنابر والمواقع بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي عن الصوفية، التي يتهمونها بالزيغ والضلال على سبيل الإطلاق، من غير تمييز بين من يتخذ من الصوفية منهجا للتقرب من الله سبحانه وتعالى وبين من يتخذها طريقا للتكسب مما يضفيه عليها من مسحة شركية وما يضيف إليها من اعتقادات كفرية وطقوس بدعية، يُرتجى فيها الولي المخلوق ويُترك فيها الله الخالق. يقول الشيخ ابن باديس في مقال له بمجلة الشهاب: “التصوف يا إخواننا من الأسماء الاصطلاحية المحدثة، وأراد به قومٌ علميا ما يتعلق بأعمال القلوب، کالزهد والصبر والرضا من الأحكام، وعمليا تهذيب الأخلاق وترويض النفوس على التخلي عن كل رذيلة، والتحلي بكل فضيلة، مع ملازمة السنة ودوام الإخلاص. وهذا معنى إسلامي صحيح، مبثوث في آيات القرآن وفي كتب الأثر”.

الوطنية  في فكر ابن باديس:

لا نقرأ لشيوخ التيار السلفي كلاما صريحا عن موقفهم من الوطنية كشعور عميق يختلج في النفس إلا ما كان من قبيل دفع شبهة معاداة الوطنية عنهم وادّعاء الانتساب إليها والسير في ركابها، وأما وطنية ابن باديس فظاهرة غير مسسترة، فهو كثيرا ما يقرن بين الإسلام والجزائر كما في مقاله المشهور: “لمن أعيش؟ أعيش للإسلام وللجزائر” الذي نقتبس منه هذا المقطع: “ولن نستطيع أن نؤدي خدمة مثمرة لشيء من هذه كلها إلا إذا خدمنا الجزائر. وما مثلنا في وطنناالخاص –وكل ذي وطن خاص– إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة. فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية. ومن ضيّع بيته فهو لما سواه أضيع. وبقدر قيام كل واحد بأمر بيته تترقى القرية وتسعد، وبقدر إهمال كل واحد لبيته تشقى القرية وتنحطّ”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!