جواهر
وجهات نظر

أريد راحتي.. لا أريد الجنّة!

أماني أريس
  • 4161
  • 33
ح.م

تكثر مطالبهم، ولا تنقطع شكاويهم.. يبكون ويصرخون مثل طفل صغير. لا شيء يرضيهم، ولا تفسير لتصرفاتهم غير صغر العقل والخرف، لكن من عساه يدرك حجم الحسرة التي تملأ قلوبهم، والغربة التي تنهش دواخلهم.. كتلة هزيلة تخطّاها الزمن وجاز، وخانها الساق والساعد والعكاز.

كبار السنّ في مجتمعنا هم ضحايا مجتمع تنكر لهم، وارتدى ثوبا ليس على مقاسه، هم المنتسبون إلى عصر العائلة الكبيرة التي لا ينفصل فيها الأبناء عن والديهم، ويدينون لهم بالبرّ والتقدير طوعا، وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة مصير لم يتوقعوه، ربما رحل أبناؤهم عنهم واحدا تلو الآخر، أو وضعهم أرذل العمر تحت رحمة الكنّة.. وهنا تكمن المحنة.

ألقيت عليها تحية الصباح فرأيتها تلوح لي بيدها وتطلب مني الاقتراب، وما إن وقفت أمامها، حتى أجهشت بالبكاء وانطلقت تشكو حالها مع الوحدة وهي التي أنجبت ستة أبناء، توفي رفيق دربها قبل سنوات، بناتها الثلاث تزوجن في مدن بعيدة، وبقيت تعيش مرتحلة بين منازل أبنائها الثلاث، تغتالها تأفّفات زوجاتهم ومعاملتهن الفظّة في اليوم ألف مرة، ختمت المسنّة المسكينة شكواها بكلام استوقف تفكيري: “ما ربحت غير القاورية ما ولدتهم ما استنات يعلقولها التّاج”.

 قبل أن يتخلى الغرب على نظام العائلة الكبيرة التي تجمع الأبوين الكبيرين وأبناءهم تحت سقف واحد، وقبل أن يصبح للمرأة أدوار واهتمامات أخرى خارج نطاق بيتها، وتصبح لا وقت ولا طاقة لها حتى لرعاية أطفالها فضلا عن رعاية حمويها، أحدثوا “فرمطة” تدريجية للذهنيات، وأعادوا شحنها بثقافة جديدة تمنح الفرد مساحة شاسعة من الاستقلالية، ثم أرسوا نظما مدنية تلعب فيها المؤسسات أدوار الأسرة التقليدية، دور الحضانة للطفولة، ودور اليتامى، ودور المسنين، والمطاعم…الخ

 لقد أسسوا فكريا  للحياة الفردانية قبل أن يرسوها على أرض الواقع، أما فردانيتنا جاءت قبل أوانها خدّجا مع سبق الإصرار، ودون تسبيق الإنذار، متناقضة مع تعاليم ديننا وقيمنا وثقافتنا، فوجدنا أنفسنا نتخبط في شبكة من العلل الاجتماعية. أبرزها هذا الفراغ وخيبة الأمل التي يشعر بها المسنّ بعد افتراقه عن أبنائه، أو شعوره بأنه عالة و فرد من الدرجة الثانية في بيت تحكمه كنّة لسان حالها يقول: أريد راحتي.. لا أريد الجنّة!.

مقالات ذات صلة