-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أزمة فتوى أم أزمة مفتين؟

أزمة فتوى أم أزمة مفتين؟

يُخيَّل إليك من إلحاح بعضهم على تشكيل لجان للفتوى أننا نعاني أزمة فتوى، والحقيقة أننا نعاني قبل هذا من أزمة مفتين، ولهذه الأزمة أسباب شرعية منها أننا غفلنا لعقود عن التكوين في مجال الفتوى تكوينا شرعيا يتجاوز التكوين في الثقافة الفقهية التراثية إلى تكوين مرجعية فقهية.

لقد جعلنا الفتوى الشرعية حبيسة التراث الفقهي الذي أخذناه على علاته ولم نطوره ليواكب العصر، رغم أن الأصل في الفتوى أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بعصرها فلا يمكن في أكثر الحالات ترحيل فتاوى القرن الثالث الهجري إلى القرن الواحد والعشرين الميلادي، ويضاف إلى ذلك أننا هوّننا من مقام الفتوى وتساهلنا في شروط المفتي إلى الحد غير المقبول حتى أصبح يتصدى لها كل من هب ودب، ويضاف إلى ذلك أيضا أن معاهدنا الشرعية وجامعاتنا الإسلامية لم تخصص للفتوى أقساما مستقلة وأدخلتها في عموم أو ربما في فروع المواد الفقهية حتى إذا ألجأتنا الحاجة إلى مفتين استنفرنا قواعدنا ونقبنا في البلاد على غير هدى لنكتشف في النهاية أننا لم نُحسن تقدير الأمور وأننا لم نفقه حكاية الحصان والعربة.

إن الارتجالية والحلول المستعجلة لا تحل أزمة الفتوى، فحل الأزمة لا يكون إلا بإيجاد مفتي بالمواصفات الشرعية التي قرأنا عنها في “إعلام الموقعين عن رب العالمين” لابن القيم وكتاب “الموافقات” لأبي إسحاق الشاطبي وكتاب “الفتوى في الإسلام” للشيخ جلال الدين القاسمي.

إن المفتي ليس ذلك الطالب أو الباحث الذي يتخرَّج في قسم الفقه والأصول ولو حصد أعلى الدرجات، والذي يطلب الفقه للوظيف أو يطلبه للظفر بمنصب للتدريس، بل هو ذلك الرجل الذي حبس نفسه في محراب العلم ووصل ليله بنهاره منقبا في بطون الكتب، وهو ذلك الرجل الذي زاحم العلماء بالرُّكب واستوعب أقوالهم ووعاها وأضاف إليها بما اجتمع له من رصيد فقهي، وهو أيضا ذلك الرجل الذي جمع بين فقه التنزيل وفقه النوازل.

يجب أن تعمل لجان الفتوى التي نعتزم إنشاءها على غربلة الموروث الفقهي وتطوير دائرة الاجتهاد في النوازل والقضايا المستجدة وعلى الجمع بين فقه “دورة المياه” و”دورة الفلك”، كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وهذه ضرورة تقتضيها طبيعة الفتوى التي يجب أن تتجدد وتتطور لتوافق عصرها وتجيب عن تساؤلات الإنسان في المجتمعات المعاصرة.

يجب التفريق بين دارس الفقه والفقيه؛ فدارس الفقه في الغالب تنطبق عليه مقولة: “بضاعتنا ردَّت إلينا” لأنه يكتفي بما يُلقن له ثم يرجعه كما هو لا يزيد عليه ولا ينقص، وأما الفقيه فهو الذي بلغ من مراتب الفقه مبلغا ينزله منازل المفتين لأنه جمع إلى جانب العلم بفقه التنزيل العلم بفقه النوازل واجتمعت له تركة فقهية معتبرة تؤهله للفتوى. ينبغي أن نتحلى بالصراحة والشجاعة الأدبية فنقرّ بأننا لم نستطع بعد إيجاد المفتي المناسب لنفكر في تأسيس لجان للفتوى فبناء السكة يسبق وضع العربة. يجب أن لا تستبد بنا الرغبة الكاذبة في منافسة الآخرين في مجال الفتوى ونحن لا نملك ما يملكونه من كفاءات فقهية هي ثمرة تكوين طويل وتدريب مستمرّ، فالقاعدة أن من ينافس الآخرين ويراهن على افتكاك الصدارة منهم يجب أن يرقى قبل هذا إلى درجة منافسه وإلا فإنه سيخسر الرهان.

عجبت ممن يتحدث عن الفتوى وهو أجهل الناس بها، وممن يرشح فلانا أو علانا أو جماعة لمنصب المفتي وهو يعلم أنهم ليسوا مؤهَّلين للفتوى، فللفتوى أهلها الذين تتحقق فيهم المواصفات الشرعية والأخلاقية التي أوردها الإمام الشاطبي في “الموافقات”، يقول الشاطبي: “المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك أمور، أحدها النقل الشرعي ففي الحديث أن “العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم”، وثانيها أنه نائب عنه صلى الله عليه وسلم في تبليغ الأحكام لقوله: “ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب” وقوله: “بلّغوا عني ولو آية”، وثالثها أن المفتي شارع من وجه لأن ما بلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلّغا والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب إتّباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق”.

أين من مفتينا –إلا من ندر- من تتحقق فيهم هذه المواصفات الشرعية والأخلاقية؟ أليس منهم كثّر ممن لا يستحضرون خطورة مقام الفتوى فيستفتى أحدهم في نشاز الزوجة على الهواء فيفتي بطلاقها وهو لم يستمع إلا لطرف واحد فيظلم المرأة ويشتّت الأسرة ويشرِّد الأبناء ويزيد من تفاقم مشكلة الأمهات المطلقات في المجتمع؟ أليس من مفتينا من لم يبلغ درجة التقليد بعد ناهيك عن بلوغ درجة الاجتهاد فيقتبس من الألفية وينسبه إلى الأجرومية ويستفتى في مسألة فيتعتع ولا يعرف ما يقول وكأنما حبسه حابس الفيل ثم يقول لسائله كلاما كيفما اتفق فيأخذه المسكين ويقفل راجعا إلى بيته أو حيِّه فيُحدث فتنة كبيرة وبلبلة عظيمة.

أليس من مفتينا كثّر غلبت عليهم النرجسية وداء التعالم فيستفتون في مسائل كثيرة فيفتون فيها جميعا وكأنهم جمعوا فقه الأولين والآخرين وفاقوا في اجتهادهم اجتهاد ابن القيم والشاطبي وكانوا أعرف بمسائل الفقه من مالك والشافعي؟ أليس من مفتينا من له جرأة عجيبة على الفتيا وهو يعظ الناس ويحدِّثهم عن تهيُّب السلف وفضلاء الخلف من الفتيا؟. قال الإمام النووي في “مقدمة شرح المهذب”: “وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفا: روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدُهم عن المسألة فيردُّها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى تُرفع إلى الأول”. خلافا لهذا النموذج السلفي النادر والباهر، هناك في مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم من المفتين –إلا من رحم- من يسأل في مسائل كثيرة وكبيرة فيجيب عنها جميعا وكأنه مالك وشافعي عصره.

حينما نعتزم إنشاء لجان للفتوى، وهي ضرورة لا مناص منها حينما نستجمع شروطها، يجب أن نفكر  بالتوازي مع ذلك أو قبل ذلك من باب أولى في إنشاء معاهد متخصِّصة لتخريج المفتين قياسا على معاهد تكوين الأئمة، فالحاجة إلى هذه المعاهد ماسّة من أجل أن نسد فراغا كبيرا في هذا الجانب، وخاصة أن الكليات والجامعات الإسلامية التي تنتشر في العالم العربي والإسلامي تكتفي بتخريج حمَلة الشهادات الفقهية ولا تخرِّج فقهاء.

حينما نعتزم تأسيس لجان للفتوى، يجب أن نحرص على اختيار من يصلح للفتوى ممن جمع إلى جانب العلم الشرعي رصيدا معرفيا ولو قليلا في العلوم الأخرى، فقد تُعرض له مسائل يحتاج فيها إلى علم بهذه العلوم فيجيد الجوابَ عنها في عمومها ويحيل المعقد منها إلى أهل الاختصاص.

وحينما نعتزم تأسيس لجان للفتوى، يجب أن نفكِّر أيضا في تأسيس لجنة فقهاء وعقلاء مهمَّتها ترشيد الفتوى ومحاربة ظاهرة فوضى الفتاوى التي تهدِّد مرجعيتنا الدينية أو تجعلنا في خصام وصدام مع خصوصياتنا المجتمعية أو ينتصر بعضُها بطريقة أو بأخرى للآراء الشاذة.

يجب أن تكون الغاية من إنشاء لجان الفتوى التعريف بمراجعنا الفقهية التي زهد فيها كثيرٌ من الجزائريين الذين ابتلي بعضهم بعدوى الفتوى المستورَدة فلا يطمئن إلى فتاوى علماء الجزائر لأنها في نظره فتاوى قاصرة وعاجزة، فكلما عنت له مسألة صغيرة أم كبيرة، هرع إلى علماء الضفة الأخرى وكأنه لا يوجد لدينا فقهاء وعلماء من طينة هؤلاء.

يجب أن تعمل لجان الفتوى التي نعتزم إنشاءها على غربلة الموروث الفقهي وتطوير دائرة الاجتهاد في النوازل والقضايا المستجدة وعلى الجمع بين فقه “دورة المياه” و”دورة الفلك”، كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وهذه ضرورة تقتضيها طبيعة الفتوى التي يجب أن تتجدد وتتطور لتوافق عصرها وتجيب عن تساؤلات الإنسان في المجتمعات المعاصرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!