-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ثاموغلي 2/2

أشريف خدام… الرسم بالكلمات واللحن

أشريف خدام… الرسم بالكلمات واللحن

تعتبر ظاهرة التغرّب نتيجة من نتائج الاستعمار الفرنسي، الذي أهلك الحرث والنسل، بفعل سياسته الاستدمارية التي تجسدت في التقتيل، والتفقير، والتجويع، والتجهيل. وبقدر ما كانت الهجرة إلى فرنسا، وسيلة للتخفيف من معاناة القرويين. …

  • الغربة … ذلك الجرح الغائر
  • ومحاولة لإعادة الاعتبار للكرامة التي مرّغها الفقر في الوحل، كانت أيضا من جهة أخرى، سببا في التمزق الأسري  وحرمان النساء والأطفال من الدفء العائلي، بسبب رحيل الشباب والكهول بحثا عن لقمة العيش التي تدفع غائلة الجوع عمن بقي من الأهل في أرض الأجداد. وكثيرا ما غرق هؤلاء في أتون الغربة، واحترقوا بنار الانبهار ومباهج الحياة، فنسوا أهلهم، ونسوا مهمتهم الأساسية، فأخذهم سبات عميق، لم يستفق البعض منه إلا بعد انقضاء الشباب وحلول الشيخوخة. بل وهناك من مكث منهم في الغربة، إلى أن عاد إلى مسقط رأسه، جثة هامدة في صندوق الأموات. لذلك شكلت الغربة مصدر إلهام، للرعيل الأول من رواد الأغنية القبائلية أمثال سليمان عازم، والشيخ الحسناوي، وزروقي علاوة، والشيخ أعراب بويزڤارن، وغيرهم.
  • وعليه فمن الطبيعي أن يجعل شريف خدام جغرافية الغربة، محورا أساسيا، انطلقت منه معظم إبداعاته، التي شملت جوانب عديدة، كالأغنية العاطفية، والأغنية الاجتماعية، والأغنية الوطنية.
  • الغربة… مدرسة فنية أيضا 
  • والحق أن شريف خدام، قد مكـّنته تربيته الدينية والخلقية المتينة من الصمود أمام مغريات باريس،إذ لم تتدنس شخصيته بالموبقات والمحرّمات، التي راح ضحيتها خلق كثير من المهاجرين. نجح – كالنحلة- في الوصول إلى الرحيق بدل القشور، إذ التحق بالتعليم الموسيقي، فدرس السولفاج. ولا شك أنه استفاد من ثقافته العربية، للتقرب والاحتكاك بالجالية العربية التي نقلت ثقافتها إلى هناك، فتعرّف على الأغنية العربية المزدهرة بفرنسا، واستفاد من المجلات العربية الرائجة آنذاك، كآخر ساعة، والمصوّر.
  • هذا وقد ظهر تأثره برواد الأغنية العربية المشرقية جليّا في بعض من إبداعاته، فدفعه إعجابه بالفنان العملاق محمد عبد الوهاب إلى اختيار آلة العود كأداة عمل أساسية لمساره الفني، بل وحتى إلى ارتداء الطربوش لبعض الوقت مثلما أخبرني ابن عمه مُحند أوبلقاسم خدام. والحاصل أن شريف خدام، لم يلج إلى عالم الفن الغنائي كمتطفل بموازين خفيفة، بل دخل إلى عالم الأغنية من بابه العريض بموازين فنية ثقيلة قوامها الشعر الرصين، والموسيقى الجميلة، والعاطفة الصادقة، والتوصيف الصائب الذي عكس جوانب هامة من الواقع الاجتماعي المعيش.
  • المرأة … بداية المسار
  • اختار شريف خدام موضوع المرأة، ليفتح به مساره الفني الطويل، الذي تخطى اليوم نصف قرن من العطاء. كان ذلك في ظرف عصيب في جويلية 1955م، عندما سجّـل باكورة إنتاجه الفني “أيَـلِـسْ أَتـْمُورْثـِيوْ”( بنت بلدي)، وقد كلفه التسجيل مبلغ 600 فرنك قديم. وعلق المؤلف الطيب خدام على هذه الانطلاقة بفقرة طويلة، اقتبسنا منها بالتصرف من باب مراعاة المقام، ما يلي:”إنها أول أغنية، أول شرارة، أول قطرة ثم تنهمر، وتتوالى، أحيانا هي الغيث، وأحيانا كالإعصار، إنها أفكار وأشعار أنجبتها وخلقتها ظروف قاهرة صعبة، إنها أتت بعد مخاض عسير، ولدت في وقت لا يسمح فيه لأي مخلوق تحت الاضطهاد، أن يعبر عن شعوره وأحاسيسه بكل حرية… ولدت أغنية بنت بلدي ولادة غير طبيعية، البلاد تشتعل، الناس في حزن، والأغنية تفاجئ الناس في عين الحمام، في بلاد عميروش وسي ناصر، وأعمر آث الشيخ؟ … حتى وهو يغني عن بنت البلد لم يذكر منها إلا ما يزيد بنت البلد رفعة وعزة، وهي تعمل وتكد وتساعد أسرتها، في ثياب تراعي الحشمة، وحرمة البلد… إنها أغنية رمزية فبنت البلد، هي البلد بعينيه، ص 133 .”
  • إن ما تجدر الإشارة إليه أن شريف خدام قد ساهم بماله في مناصرة ثورة نوفمبر، بطريقة سرية اقتضاها الظرف العصيب، وربما كانت هذه الأغنية بمثابة “التقية” لإبعاد شكوك فرنسا وأزلامها عنه، حتى يتمكن من مواصلة مساره الفني هناك في الغربة. وهذا مقطع من هذه الأغنية الرائدة:
  • أيَلــِّــــيسْ نـَتـْمُورْثِـيوْ      أثِينْ فِي أرْويغْ لمْحايَنْ
  • اُولـَمَا نـَـكْ ذلغايَــــبْ      مَا ذولِيوْ أيْعـَــــاشْ  ِيذمْ
  • أفكِييدْ أدَعْوَا الخِــــيرْ     إنِـــــيدْ رَبـّـــي أكِعِــــوَن
  • “بنت بلدي/ يا من عانيت من أجلها المحن/ حتى في حال الغياب/ فقلبي دائما معك/ ادعي لي دعوة الخير/ واطلبي لي من الله العون”. هذا ومن الواضح أن معنى البيت الثاني، قد تقاطع مع قول الشاعر ابن زيدون الأندلسي:
  • هوايَ وإن تناءت عنك داري*** كمثل هوايَ في حال الجوار.
  •  ومن أغانيه العاطفية الخالدة التي انطبعت في الذاكرة، كجوهرة في عقد الأغنية القبائلية، أغنية “نادية” التي استلهمها من صورة تلك المرأة الجزائرية التي التقى بها صدفة في ديار الغربة، تجلى فيها بوضوح تأثره بالفنان الكبير فريد الأطرش، في المقطع التالي:
  • نادية أثـُمْـلِحْثْ أنـْتِـــيط ْ         ثـُوزْينـْتْ ڤـَـرْ ثـَقـْبَايْـلِيينْ
  • ذڤـَـــسْــمِي إنـَمْــفـَـرَاقْ         اُولْ اُوِرحُوبْ ثـَـايَضْنِـيـنْ
  • أوي يُـوفـَانْ ذشـَعْـــــرَا         أدَمْغِـــيـغْ ڤــَرْ لــَشـْـفاريـمْ
  • أذ ْزَذغـَـغْ ذِيـنـَا دِيــــمَا         أذرَّغ ْ إطِــــيــجْ أفـَلــْنِـيـــمْ
  • “نادية يا مليحة العينين/ الجميلة بين القبائليات/ منذ أن افترقنا / قلبي ما أحب غيرك/ تمنيت لو كنتُ شعرة/ لأنبت بين حجبيك/ أظل مقيما هناك / أظلل عينيك من الشمس”
  • ومن أغانيه العاطفية الرائعة، التي عبّرت عن معاناة زوجة المهاجر، أغنية”أوينْ إرُجَاغ ْ أطاسْ / يا من انتظرته طويلا”، فهي تحمل من الدلالات العميقة الشيء الكثير، وردت بالتصريح أحيانا، وبالتلميح في أحايين أخرى. وصفت هذه الأغنية معاناة المرأة التي تركها زوجها المهاجر في القرية مهملة لسنوات عديدة، عُرضة للقيل والقال، تلوكها ألسُن السوء بترويج إشاعات عنها خطيرة أحيانا، كانت بمثابة سكاكين مغروسة في عرضها المصون. وهكذا فمعاناة المرأة كانت أضعافا مضاعفة، فهي تعاني من لوعة الفراق وحرقة الشوق، ومن صهد حاجة أبنائها إلى دفء الوالد الغائب من جهة، ومن ألسنة السوء التي تلسعها يوميا بأقاويل ملفقة تشك في سيرتها في القرية، وتزرع الإشاعات حول زوجها، مفادها أنه ارتبط هناك في الغربة بامرأة فرنسية من جهة أخرى. ورغم ضراوة المعاناة، فقد ظلت شريفة، محافظة على سمعة زوجها، ولكن للصبر حدود:
  •  أويــنْ إرُجـَـــاغ أطــــاسْ           اُوڤـاذغ ْ أزْمَانْ أكِــغـُـورْ
  • أقلِي حَسْـبَغْ إيـــضْ أذوَاسْ           مَـلـمـِي أرَفــَرْزَنْ لـُمُـورْ
  • أرْويحْ يَزْڤَ ذِي الوَسْوَاسْ           صَبْرَغ ْ أقـرَحْنِي لهْــذورْ
  • مَا صَبـْرَغ ْ فـَهْـمْ إمَـنِـيـــكْ           لمَعْـنىَ حَـسْـــبَـغْ اُوسَــانْ
  • اُورْ ثــَتسوُ نَــك ْ ذزْوَجيكْ           عشريـنْ ذسُوڤاسْ عَــدّانْ
  • أشحَالْ عُـوسَـغْ أفْ أنِيفِيكْ           ثـَرْحَايي الهَـذرَا الجـيرَانْ
  • إكـَتشْ مِي صَبـْرَغ ْ أطاسْ           أشفو أصْبَرْ يَسْعَ الحَدِّيسْ
  • “يا من انتظرته كثيرا / أخاف أن يغيّرك الزمان/ إني أعدّ الأيام والليالي/ في انتظار اتضاح الأمور/ روحي يعذبه الوسواس/ تحملت القيل والقال المؤلم / فإن صبرت عليك تفهمي/ لأني أعدّ الأيام والشهور/ لا تنس أني شريكة حياتك/ عشرون سنة مضت سدى/ كم حافظت على شرفك/ رغم الافتراءات المؤلمة/ من أجلك صبرت كثيرا/ لكن للصبر حدود”. هذا غيض من فيض شعره العاطفي، الذي لا يتسع المقام للتوسع فيه.
  • لأرض الأجداد نصيب
  • من الطبيعي أن تحتل الأغنية الوطنية حيزا هاما في رصيد شريف خدام الغنائي، ولعل أبرزها أغنية “أنا جزائري” تحدث فيها عن عراقة الوطن الجزائري وعن وصية الأجداد الداعية إلى صون مآثره، وإلى عدم التفريط في تاريخه وثقافته، وإلى الاعتزاز بأمجاده، وهذا مقطع من الأغنية الوطنية:
  • إزُورَانِيوْ غـَزيـفِيـثْ        اُوغــَـــنْ ذلـــْــزايَرْ مــرّا
  • وينْ إدِينانْ وَزيـلِيثْ         ِونّـا اُورْ يَسـِّـــــــــينْ أرَا
  • أسْنَرَّغ  ْثـَرْڤا إثِسِيثْ        أكـَــنْ أتـْصَــڤــَمْ أتـَجْـــرَا
  • رُوحَنْ ذِيلقاعَ عَمْقنْ        أشـْـفِيـغْ يَحْكايــيدْ وَمْغــَارْ
  • يَنّاكْ أمِّي حَـذريـثـَنْ        غورَكْ أثنتجَّضْ إوْغُورَارْ
  • “عروقي لها امتداد طويل/ في عمق أرض الجزائر كلها / من قال إنها قصيرة المدى/ فهو لمعنى التاريخ جاهل/ أتعهدها بمياه الريّ / كي نزكو وهي شجرة/ الجذور ممتدة لا حد لها / كذا قال لي أبي وجدي/ قال حافظ على الأصول يا بنيّ/ لا تدعها يقضي عليها الجفاف.”
  • تغنى أيضا بجبال جرجرة- مسقط رأسه- التي ترمز للأصالة العريقة، والصمود، والشموخ، والعزة، والكرامة. ألـّف هذه الأغنية سنة 1958م، حينما اشتد أوار الثورة ضد فرنسا، لذا يرى المؤلف الطيب خدام أنها حملت رسالة سياسية تحررية:”… ألف شريف خدام أغنية جرجرة ليقول إن جرجرة لن تسقط ولو اشتدت قبضة العدو الغاشم… وأن استسلام كتائب جرجرة لم يكن واردا ولا محتملا، وسيقاوم أبناء جرجرة جنود شال وفور، وغيرهما من جنرالات العدو. فكما قاومت جرجرة جند الاحتلال وأخّرت وصول جحافل المستعمرين عشرين سنة، من سنة 1830 إلى 1850( كذا)، فإن ثورة التحرير كذلك بكتائب جرجرة ستقاوم وتنتصر… ص 241
  •  وهذه أبيات منها اخترتها بالتصرف:
  • أسْيسْمِيمْ أجَرْجرَا          عَـدّاغ ْ  سَـــنـَـفـْـخـا
  •              يَرْنـُو أرْذزْذِيــــغْ القـــَـدْ
  • أبَحْرِي دِيمَا يَزْڤا           أيْـبـَرّودْ إنـّــسْـــــمَا
  •            مَا يَهْـلـكْ اُمُوضينْ يَـكـْرَدْ  
  • أذڤـَمْ إدَنـْتـُورَبّا              ألـَمِي إدْنـَبَّـضْ أكـَّا
  •            ذلـفـَرْضْ أذفـَلامْ نـَنـْشـَـذ ْ
  • كـُلْ آسْ لانـَدْهَغ ْ يسَّمْ        يَاكْ رَبّي يَـعْـلــَمْ
  •           مَا يْعـَرْقاغ ْوَبْريذ نَزْرَاثْ
  • “بفضلك يا جبال جرجرة/ أسير مرفوع الرأس/ باعتزاز ونخوة/ فيك الهواء الطلق/ والنسيم العليل/ مناخك يبرئ الأسقام/ فيك نشأنا وتربينا / وترعرعنا إلى أن كبُرنا / فالإنشاد عنك فرض/ لساني كل يوم يناديك/ والله بما أقول عليم/ وبك نسترشد إذا ضللنا”.
  • هذا وللفنان أغان وطنية عديدة لا يتسع المجال لتوسيع النظر فيها،”أياكال إذاغديجان
  • “الأرض التي أنجبتنا” “أبڤايث ثلها” بجاية جميلة)/خير أجلاب نت مورثِيوْ( جلابة بلادي أفضل)/ أشحال يفرن ذي سَريمْ( كم أخفيت أسرارك، وغيرها.
  • الأغنية الاجتماعية
  • حظي المجال الاجتماعي باهتمام المغني شريف خدام، فأبدع في توصيف النزوح الريفي وتداعيات الهجرة، التي أفرغت القرى من شبابها، ومآسي الحرب العالمية الثانية المتمثلة في المجاعة والأوبئة والأمراض التي حصدت المئات من الجزائريين. ولعل أبرز أغانيه الخالدة والمؤثرة في هذا المجال، الأغنية الخاصة بـ “صرخة الأم” التي لم تجد ما تقدمه لأبنائها لدفع غائلة الجوع عن صغارها جاء فيها على الخصوص:
  • أشـــحالْ ذابْــريذ أيَسْـلـــيغ ْ          إيـَــــمّا ثـنـّـادْ أنــّــاغ ْ  
  • آمِّ اُورْثسْعيضْ أيَتشّـــــيغ ْ          ذڤـذمارَنْ أكـْثِيدَفكـَغْ
  • اُولى ذاكورْفا اُورْ ثرْويغ ْ          أمَكَ أرَكِدَسْمُوغـْرَغ ْ
  • “كم من مرة سمعت/ صوت أمي تتنهد/ لم آكل يا بني اليوم شيئا/ حتى أرضعك/ لم أجد حتى حثالة الطحين / فكيف لي أن أرعاك”.
  • الاعتراف بفضل الرجال
  • لا يمكن ختم تقديم هذا الكتاب، دون الإشارة إلى صديق عزيز على الفنان شريف خدام، وهو السيد الطاهر بوجلـّي الذي أرسله الله رحمة للفنان، وطوقا لنجدته حينما كان يعبر مرحلة التيه، لأسباب عديدة كتدهور صحته، ومعاناته من التهميش… فقد تكفل بصحته وفنـّه، حتى أعطى نكهة لحياته، وبعث موهبته من جديد بعد أن كادت العراقيل أن تطفئها، وهذه شهادة الفنان شريف خدام في الرجل:”…أشهد أنه بفضل الطاهر عادت إليّ الرغبة، ودبت فيّ عزيمة جديدة، تجسدت في أغاني تؤرخ لميلاد فنان جديد كاد يختنق، وبدونه كنت سأنتهي شيئا فشيئا…ص 99 .
  • لا شك أن عبقرية الفنان شريف خدام أكبر من أن تحصر في هذا المقال المتواضع، لكن حسبي أني أديت بعض الواجب إزاء هذه القامة الكبيرة، التي تنضاف إلى قمم جرجرة الشامخة.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!