الرأي

أضواء على التجربة الإسلامية في تونس2/2

التهامي مجوري
  • 2403
  • 8
الأرشيف
راشسد الغنوشي رفقة الرئيس التونسي الباجي السبسي

تناولنا في القسم الأول من هذه الأضواء، الجذور التاريخية -بإيجاز-، لحركة النهضة، والبذور الفكرية والتصورات التي انطلقت منها مع الإشارة لبعض خصوصياتها التي تميزت بها عن غيرها من التجارب الأخرى في العالم الإسلامي، ونواصل في هذا القسم عن تطوراتها التي مرت بها إلى مؤتمرها العاشر الذي افتتحنا به هذا المقال.

ففي أواخر سبعينيات القرن الماضي، وإثر الإضراب العام الذي قام به الإتحاد  العام التونسي للشغل في جانفي 1978، قرر العاملون في الحقل الدعوي، وعلى رأسهم الشيخ عبد الفتاح مورو، الذي أصيب في ذلك الإضراب، وزميله راشد الغنوشي إنشاء تنظيم  أطلق عليه إسم “الجماعة الإسلامية”، وذلك بعدما أقنتع الكثير من المثقفين والأساتذة والطلبة، خلال نشاطاتهم التي يقومون بها في المساجد والجامعات، من دروس ومحاضرات، وإقناع الناس بضرورة التصدي للتوجه الذي تبنته السلطة، لأن الاستقلال الكامل لا يتحقق إلا بمواجهة نظام بورقيبة، ولكن بعض النشطين ممن كانوا ضمن المجموعة العاملة رفضوا فكرة التنظيم، ولم يرضوا بالتحول عن العمل الثقافي والدعوي التربوي العام، إلى فكرة التنظيم التي تحمل في جوهرها البعد الحزبي السياسي، ومن هؤلاء صلاح الدين الجورشي واحميدة النيفر وغيرهما، من الميالين للحداثة والعصرنة، فكانوا أقرب إلى اليسار الإسلامي منهم إلى الخطاب الإسلامي الأصيل،  ولكن الشيخ راشد الغنوشي، الذي انتخب رئيسا لهذا التنظيم والشيخ عبد الفتاح مورو أمينا عاما له، أصرا على أهمية التنظيم وواصلا في الموضوع، الذي سيتحول من السرية إلى العلنية في سنة 1981 عندما قرر الحزب الدستوري الحاكم، فتح المجال إلى التعددية السياسية، فحلت الجماعة الإسلامية من قبل القائمين عليها وتم تأسيس حزب سياسي أطلق عليه الاتجاه الإسلامي.

يرى الملاحظون أن الإنتقال إلى التنظيم كان تأثرا بتنظيم الإخوان المسلمين، بينما الواقع كما يرى الشيخان مورو والغنوشي، أن ذلك كان نتيجة للتطور الفكري للمجموعة، لا سيما بعد تجربة الإضراب الذي نجحت فيه النقابة، ولم يكن للحركة الإسلامية دور فيه إلا كأفراد، رغم ان النقابة كان على رأسها الفاضل بن عاشور وهو أحد الزيتونيين، الذين تتلمذ على أيديهم أبناء الحركة الإسلامية.

أما بالنسبة للعلاقة بتنظيم الإخوان المسلمين، التي علل بها الملاحظون الانتقال من العمل الجماهيري العام إلى التنظيم، فالظاهر أنها كانت علاقة فكرية، إذ لا يوجد في العالم الإسلامي من لم يقرأ للإخوان أو يتأثر بهم في جانب او جوانب من نشاطهم الحركي، بحيث كان الإسلاميون في كثير من البلاد الإسلامية، يُدْعَوْنَ بـ”الإخوانجية”، نسبة للإخوان، أما الإرتباط العضوي بتنظيم الإخوان المسلمين، فإن قيادات النهضة ينفون ذلك؛ بل إن الشيخ عبد الفتاح مورو يصر ويؤكد على استقلالية التيار الإسلامي التونسي، عن غيره من تجارب العالم الإسلامي، ولكن بعض المصادر تذكر علاقة الشيخ راشد العضوية بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وإذا كان يصعب على المتابع إثبات هذا الأمر أو نفيه، فإن استقلالية الشيخ راشد بادية في اجتهاداته السياسية؛ بل وإضافاته في المجال الفكري والممارسة السياسية التي توحي بالاستقلالية عن الارتباط العضوي في تنظيم الإخوان.

وفي سنة 1981، وفي إطار المبادرة التي قام بها النظام بتحويل الحياة السياسية إلى حياة سياسية تعددية، خرجت الجماعة الإسلامية إلى العلن كما أسلفنا، وأعلنت في مؤتمر عام عن حل نفسها لتتحول إلى حركة جديدة أطلق عليها إسم “الإتجاه الإسلامي”، وانتخب الشيخ راشد الغنوشي رئيسا لها والشيخ عبد الفتاح مورو أمينا عاما، وتم الإعلان رسميا عن هذه الحركة في 6 جوان 1981، ووضع ملف طلب الاعتماد في وزارة الداخلية..، ولكن الجواب كان إلقاء القبض على رئيس الحركة مع مجموعة من قياداتها، في جويلية من نفس السنة، أي بعد أقل من شهرين من طلب الاعتماد، وحوكموا بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مشروعة، وصدرت في حقه المجموعة أحكاما متفاوتة، منها الحكم بالسجن لمدّة عشر سنوات على رئيس الحركة.

وفي 02 أوت 1984 أي بعد ثلاث سنوات أطلق سراح الشيخ راشد بعفو رئاسي بوساطة من الوزير الأول يومها السيد محمد مزالي. وفي مؤتمر سري عقد نهاية 1984 ثُبِّتَ الشيخان: راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو على رأس الحركة. 

ومن مبررات تحول الجماعة من الإطار الفكري العام إلى الإطار السياسي.

1. نضج الخطاب الإسلامي والإقتناع بضرورة مساهمته في المجال السياسي، بعد أكثر من عشر سنوات من العمل.

2. انحراف السلطة التونسية وارتباطها بالغرب، وفشو العلمنة والتغريب بين رجال النخبة.

3. التطورات التي يشهدها العالم العربي والإسلامي، كانتصار الثورة الإيرانية، والجهاد الأفغاني، وانتعاش الحركة الإسلامية في باقي العالم الإسلامي.

4. فقدان النظام السياسي التونسي لشعبيته التي كان يتمتع بها خلال سنوات الخمسينيات والستينيات، واختفاء كارزماتية بورقيبة شيئا فشيئا.

وفي سنة 1988  تكيف الإتجاه الإسلامي مع الواقع باسم جديد هو “حركة النهضة”، وذلك بعد الانقلاب الذي قام به بن علي على بورقيبة، إلاّ أنّها لم تحصل على الترخيص، وأستمرّ التضييق عليها –بعد انفتاح عليها يسير- والإفراج عن الشيخ راشد، ومع ذلك بقي الصدام بين الحركة وبين السلطة هو سيد الموقف. وقد أصدرت حركة النهضة في هذه المرحلة جريدة الفجر لتكون لسان حالها الفعلي الذي يدافع عنها وعن مواقفها، كما كانت مجلة المعرفة من قبل، في وسط حرمت فيه من الاعتراف بها والترخيص لها بالنشاط، واستمر الصراع الذي بلغ ذروته في مطلع التسعينيات، بحيث أجبرت الحركة على الاستقرار في الخارج، حيث لم يبق من رجالها بالداخل إلا القليل، بعد مواجهات قاسية مع النظام وخلافات داخلية، اضطرت معها إلى تجديد دمها وإعادة بنائها. 

فاستقر رئيس الحركة بالجزائر ومنها إلى السودان ثم بريطانيا، وفي كل ذلك، ظلت السلطات التونسية تطالب برأسه من الجزائر وبريطانيا، على اعتبار أنه قد صدرت في حقه أحكاما قضائية..

وفي بريطانيا المنفى الأخير للحركة قبل دخولها تونس “أعيد ترتيب البيت النهضوي فنجح إلى حدّ ما في الحفاظ على الإطار السياسي للحركة الإسلامية التونسية، الذي أخذ يصدر البيانات تباعًا تعليقًا على مستجدات الأحداث والتطورات السياسية في تونس، كما استمرّت جريدة الفجر التابعة لحركة النهضة في الصدور من العاصمة القبرصيّة نيقوسيا ثمّ توقفّت لأسباب مادية”.

يوجد من التيار الإسلامي في تونس مجموعات أخرى صغيرة وليست بحجم النهضة، لا ينبغي إغفالها، وهي حزب التحرير الإسلامي التونسي، والإسلاميون التقدميون تتشكل ممن المنشقين عن الجماعة الإسلامية،  وطلائع الفداء وهي مجموعة إسلامية مسلحة تزعمها محمد حبيب الأسود كشف في سنة 1987.

في جميع هذه المراحل كانت التجربة الإسلامية في تونس، من الحركات القليلة التي اهتمت بالخطاب الإسلامي بأفقه الإنساني، ولكنها فيما يبدو لم تستطع التغلب على المعادلة التي كانت تحكم الحلكة الإسلامية في العالم، وهي معادلة الخطاب الديني الوعظي غير المفصول عن المفهوم السياسي للنضال، وأنا أذكر هنا ان أبناء الحركة الإسلامية في العالم ومنه الجزائر في سبعينيات القرن الماضي تنظر إلى الخطاب الإسلامي التونسي على أنه “خطاب مائع”، وتدينه خفيف، أي لا يظهر عليه الاهتمام بالعبادات وأشكالها، وإنما يغلب عليه الخطاب الشبه علماني. وكل تلك الظنون كانت في الحقيقة غير مدركة، لحقيقة هذه الحركة، سواء بسبب الجهل بالأرضية التي كانت تتحرك فيها هذه التجربة، أو بسبب تقدمها في فهم المرحلة، فقد كانت التجربة التونسية تناقش نسبية التجربة النبوية، حيث كانت رسالة الأنبياء إلى جانب رسالة التوحيد، حسب حاجات الناس الإجتماعية، فلوط جاء يعالج مشكلة أخلاقية، ويوسف بعث ليعالج مسألة اقتصادية، وإبراهيم قام يعالج مشكلات ذهنية… وهكذا كل نبي كانت له رسالة لمعالجة قضية أساسية ومسائل أخرى فرعية..، ويبدو ان تلك الأفكار الجنينية، قد تطورت مع تجارب العالم الإسلامي، ونضج الإطارات الإسلامية الفكري، إلى ما توصلت إليه حركة النهضة من الفصل العضوي بين العمل الدعوي والنضال السياسي ومن قبلها التجربة في المغرب التي فصلت بين حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح، وفي السودان وتركيا…إلخ.   

مقالات ذات صلة