أعواد التحريق وأعوان التفريق
العنوان الرئيس لجريدة الشروق اليومي الصادرة في 06 / 02 / 2014 (غرداية تحترق) ذكرني بحادثة وقعت في صائفة 1973، حيث كنتُ ضابطا احتياطياً في مدرسة تكوين ضباط الصف بالبليدة (حُوِّلت في خريف تلك السنة إلى مدرسة تكوين ضباط الاحتياط، بعد تخصيص أكاديمية شرشال لتكوين الضباط العاملين).
ذات ليلة شديدة الحرارة كنت ضابط مناوبة فطُرِق باب غرفة المناوبة (حوالي الواحدة ليلا)، ففتحت الباب فإذا صف ضابط المناوبة يخبرني أن شخصا بباب المدرسة يطلبُ مقابلة ضابط المناوبة. ارتديتُ قبعتي وتوجهتُ إلى الباب فإذا الشخص هو أحمد ڤايد، الذي كان يدعى أيام جهادنا “الكومندان سليمان”، و كان ثالث ثلاثة نوابٍ لهواري بومدين في قيادة أركان جيش التحرير الوطني، ثم تولى ـ بعد استعادة الاستقلال ـ عدة مناصب سامية آخرها عضو المجلس الوطني للثورة ومسؤول جهاز الحزب، وقد عارض في 1973 سياسة بومدين، ولجأ إلى الخارج، حيث توفاه الله في المغرب في 08 مارس 1978.
حيّيتُ الرجلَ، وقدمت نفسي، فصافحني وهو يقول لي: “نوَّضْ قِيَادْ الدزاير، راهي تَتّحْرَقْ”، مُردفاً: “النار راهي شاعلة في منطقة الشفة”، (أصلها الشفاء)، ثم حيّاني وامتطى سيارته وتوجه تلقاء مدينة الجزائر.
إن ما يقوم به في هذه الفترة في الجزائر من يمكن تسميتهم كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي: “أعواد التحريق، وأعوان التفريق” هو ـ إن لم يتداركنا الله ـ عز وجلّ ـ بلطفه ورحمته ـ بداية نارٍ ستأتي على أخضرنا ويابسنا، وعلى “من طاب جنانو”، وعلى من هو في المهد، خاصة أن نيرانا أخرى ملتهبة من حوالينا.
إن هذا الذي يقع في جزائرنا الحبيبة من صراعٍ خفيٍّ وجليّ، يدل على أن هؤلاء المتصارعين “كبار في السن، صغار في العقل”، إذ هم عاجزون عن تقدير الموقف حقّ قدره، خاصة هؤلاء الذين يريدون أن يزجّوا الأخ بوتفليقة في عهدة رابعة لقيادة سفينة الجزائر في هذه الأمواج المتلاطمة، وهو في ظروف صحيةٍ صعبةٍ، مستهدفين مصالحهم الخاصة ولو كان في تحقيقها التهاب الجزائر وخرابها.
إنّ داء الجزائر لم يأتِ في رأي كثير من الناس مع الأخ بوتفليقة ـ وإن استفحل واستشرى في عهده الذي طال ـ هو الانهيارُ الكبير والتدهور الخطير الذي أصاب أخلاقنا في المقاتل؛ وهذا الداء هو الاستحواذ على السلطة بالقوة، وبالتزوير، وبالرشوة، وبالمحسوبية، والجهوية، والعشائرية…
وقد بدأ ذلك بخلع الرئيس الشرعي بن يوسف بن خدة الذي كان يتميز بميزتين اثنتين:
أولاهما انتخابه عن طريق مؤسسة شرعية هي المجلس الوطني للثورة الجزائرية.
وثانيهما تمتعه بمستوى علمي (صيدلي) يسمح له باستيعاب مشاكل البلاد وتصور حلولها، مقارنة بمن جاء بعده بانقلاب (الأخ بن بلة)، الذي كان مستواه العلمي محدودا جدا، و قد سمعناه يتكلم في عدة مناسبات ـ بعد عشرين سنة من التعلم ـ فلم نكد نتبين شيئاً. والكارثة هي أنه استولى على عدة مناصب (رئيس جمهورية، رئيس حكومة، وزير الداخلية، …وكاد يستولي على وزارة الخارجية، لولا انقلاب 19 جوان 1965)، ثم دخلنا ـ بعد أمة ـ في مرحلة “صناعة الرؤساء، واستيرادهم من الخارج، وتزوير الانتخابات”، مما يذكرنا بمقولة الإمام الإبراهيمي وكأنه ينظر من وراء الغيب إلينا، حيث يقول: “فالانتخابات ـ في الجزائر ـ منذ سُنّتْ لعبة لاعب، وسخرية ساخر، ورهينة استبداد، وُلِدت شوهاء ناقصة، ومازالت متراجعة ناكصة”. (الآثار ج3 .ص 343).
والدليل على صدق كلام الإمام الإبراهيمي هو ما يجري في وطننا الحبيب من مهازل، وتلاسن بين من يحسبون أنفسهم “كباراً”، وما هم إلا كما يقول المثل العربي: “ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل”، بتعبير القرآن الكريم الأصدق قيلاً: “وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم، كأنهم خُشُبٌ مسنّدة”، ولو لم يكونوا كذلك لما عبثوا هذا العبث الذي هو (دون الصبياني) بهذه الجزائر الكبيرة، التي عجزت في آرائهم السقيمة وعقولهم القاصرة، وأنظارهم القصيرة أن تلد غير من “تعرفونه”، وهذا جهلٌ فظيع وقول شنيع، إذ يتوقّحُ و”يتقزدرُ” أصحابه فيدّعون أن الله ـ عز وجلّ ـ لم يخلق غير هذا الإنسان، إن صدّقنا (هَذَرَهُم) بأنه لم يُخلق مثله في البلاد.
إن الذي يتهدد الجزائر ـ شعبا وأرضا ـ خطير جدا، بينما القوم يخوضون ويلعبون، وسيجدون يومهم الذي يوعدون. وقد يفعلون فيها ما فعله نيرون بروما.