الجزائر
قتلت الأطفال والعرسان والأمهات:

أمراض بدائية فتكت بالجزائريين

سمير مخربش
  • 4364
  • 19
أرشيف

أعادت الإصابات بداء الكوليرا إلى الأذهان أمراض الفقر التي فتكت بالجزائريين في سنوات ماضية، في مقدمتها داء البوتيليزم الذي قتل 44 شخصا بشرق البلاد بسبب الكاشير الفاسد، وكذا داء الجرذان “ليبتوسبيروز” الذي يظهر بسبب تلوث المياه رفقة داء التيفويد الذي كان من الأوبئة التي ترسم معالم التخلف بوضوح.
سيبقى داء البوتيليزم أحد أشهر الأمراض الفتاكة التي قتلت الجزائريين وسجلت حصيلة مرعبة سنة 2000 بعد إحصاء 44 ضحية فارقت الحياة مع إصابة 240 مواطن بداء البوتيليزم لسبب واحد ووحيد وهو تناول مادة الكاشير الفاسد المصنوع ببلدية بئر حدادة جنوب ولاية سطيف. الحادثة تعتبر أشهر كارثة في العالم سببها الكاشر الفاسد، والذي كان يصنع بمواد سامة وحتى بلحوم أبقار ميتة وكان يحضر في أحواض قذرة ويخلط بأعمدة خشبية وسط ظروف لا تتقاطع إطلاقا مع النظافة.
الحادثة مرت عليها 18 سنة، لكنها للأسف تطفو على السطح كلما فتحت ملفات الأوبئة وأمراض الفقر والكاشير الفاسد والمياه الملوثة، وستبقى حادثة الكاشير القاتل التي انطلقت من ولاية سطيف تحكى للأجيال القادمة وسيتحدث الآباء لأبنائهم عن الكاشير الذي تحول إلى سم أحمر يقتل الناس على طريقة الكوارث الطبيعية. ومن هؤلاء الضحايا عائلة فقدت ثلاثة من أفرادها الأم وولدين، وأغلبية الضحايا يومها كانوا من ولايات الشرق، فتسربت الكارثة إلى عدة مناطق منها سطيف وقسنطينة وميلة وشلغوم العيد وباتنة وصالح باي وبئر العرش وعين ولمان وغيرها من الجهات القريبة من محيط سطيف.

الكاشير.. أو السم الأحمر الذي خطف أبناء في سن الزهور

ومن المآسي المسجلة يومها قصة الطفل (ب.ع) من بلدية بئر العرش بولاية سطيف البالغ من العمر 8 سنوات، والذي اشترى والده 250غ من مادة الكاشير اقتناها من أحد المحلات الكائنة ببلدية بئر العرش، وكانت تلك المادة وجبة العشاء الرئيسية للأب وابنه ليشعر الاثنان بعدها بدوار مصحوب بآلام في الحلق وعدم القدرة على رؤية الأشياء بوضوح، وعند تنقل الأب وابنه إلى المستشفى لم يتمكن الأطباء من تشخيص المرض، لذلك بقيا تحت الرعاية الطبية، لكن حالة الطفل ازدادت سوءا، وأصبح لا يقدر على تناول الطعام ولا حتى على شرب الماء بسبب الورم الذي أصابه في البلعوم، وبعد حوالي شهر من المعاناة لفظ الطفل أنفاسه الأخيرة ليتم دفنه في غياب والده الذي بقي ماكثا بالمستشفى. وبنفس البلدية قام الشاب (ش.م) البالغ من العمر 15 بمساعدة جاره في تنزيل بعض مواد البناء، وبعد الانتهاء من عمله كافأه الجار بقطعة كاشير تناولها في الحين، لكن بعد مدة أحس بدوار وبآلام في الحلق فنقله والده إلى مصلحة الاستعجالات ببئر العرش، ثم إلى مستشفى العلمة ليتم تحويله على جناح السرعة إلى مستشفى سطيف، وبعد أربعة أيام من الرعاية الطبية ظلت حالة الطفل في تدهور مستمر ما أجبر المصالح الطبية على تحويله إلى قاعة الإنعاش، وحسب الوالد فإن ابنه تلقى أوامر بعدم شرب الماء، لكنه لم يلتزم بذلك لعدم قدرته على مقاومة العطش فحدث ما لم يكن في الحسبان، ولم تستمر حالة الطفل بعدها سوى حوالي 12 ساعة، حيث تلقى الوالد مكالمة هاتفية من المستشفى أخبروه بأن ابنه فارق الحياة.
وفي نفس المنطقة ضيع الشاب (م.ف) مستقبله الدراسي وقاطع التعليم في السنة الثانية ثانوي، حيث أجرى عملية جراحية على مستوى العنق أرغمته على المكوث في المستشفى لمدة 14 شهرا، وكل ذلك بسبب تناوله لمادة الكاشير الفاسد التي تركت له آثارا نفسية عميقة ومازال إلى اليوم أثر العملية باديا على عنقه، وهو الآن مجبر على ارتداء أقمصة خاصة تسمح بتغطية جرح العملية، وحسب والده فإن تكاليف العلاج فاقت 40 مليون سنتيم.

اشتروا ما رخص ثمنه ففقدوا أغلى ما يملكون

حادثة الكاشير كانت لها آثارها العميقة وغيرت مجرى حياة الكثير من العائلات فكانت وراء وفاة زوجين لم يمر على تاريخ زواجهما سوى 20 يوما فقط، وذلك لتناولهما مادة الكاشير التي اشتراها العريس بأبخس الأثمان ففقد معها أغلى ما يملك. كما سجلت هذه القضية مفارقة تحول على اثرها المتهم إلى ضحية، حيث تقدمت عائلة من شلغوم العيد بشكوى ضد تاجر للمواد الغذائية الذي باعها مادة الكاشير الفاسد التي تسببت في وفاة أحد أبنائها مما أحدث هلعا بالحي فنشب خلاف حاد بين العائلة والتاجر، لكن الأقدار شاءت أن يلقى التاجر أيضا حتفه بسبب تناوله لنفس المادة فاحتارت العائلة بين الحزن على ابنها ومقاضاة المتهم الضحية .
فاجعة أخرى ألمت بشاب يبلغ من العمر 24 سنة توفي أسبوعا واحدا قبل حفل زفافه، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة وهو بصدد التحضير للعرس إذ يبدوا أنه تعب من عملية شراء لوازم الفرح فأراد أن يستريح بتناول قطعة كاشير فكانت راحته إلى الأبد. حادثة الكاشير بلغت في تطورها حد الطرافة وكان ذلك بمدينة العلمة أين اشترى حارس ليلي قطعة كاشير ليتناولها كوجبة عشاء فتركها فوق المكتب، إلا أنه بعد مدة اكتشف أن القط قد تناول جزءا منها فقرر رميها دون أن يتذوقها، والحيرة كانت كبيرة لما وجد الحارس بعد يومين القط ميتا فالتحق هو الآخر بضحايا الكاشير.

الكوليرا وأخواتها.. أمراض تغيب ولا تموت

هي مأساة ظلت في الاذهان مثلما ستبقى حادثة الكوليرا اليوم ويبقى التهاون وانعدام النظافة عاملا مشتركا بين الحادثتين، لكن كارثة الكاشير يضاف إليها عامل الاحتيال والبحث عن الربح السريع فكانت هذه المادة تصنع من لحوم ترفضها المؤسسات العمومية لفسادها فيتم تحويلها إلى صناع المادة الحمراء، والتأويلات امتدت إلى استعمال لحوم الحمير والبغال والمنخنقة والموقوذة والمتردية، وكانت تحضر في مستودعات من فصيلة الاسطبلات.
مرض آخر فتلك بالجزائريين بولاية سطيف ويتعلق الأمر بداء الجرذان المعروف علميا باسم “ليبتوسبيروز” الذي كان سنة 2010 سببا في وفاة 4 أشخاص منهم أم وابنها فارقا الحياة بعد ما شربا من عين عمومية تابعة لمسجد بمدينة العلمة بولاية سطيف، وقد تم حينها إعلان حالة استنفار وعند إخضاع مياه البئر التابعة للمسجد للتحاليل الطبية اتضح أن فيها جرذانا ميتة وكانت وراء انتشار الداء القاتل. وقد خلفت الحادثة هلعا كبيرا وتساؤلات عديدة حول مياه الآبار غير المراقبة. كما اعادت إلى الأذهان كوارث داء التيفويد الذي كان يفتك بالجزائريين في العديد من المناطق بسبب تلوث المياه واختلاطها بمياه الصرف فكان هذا الداء يتقاسم يوميات الجزائريين، خاصة في المناطق النائية التي تعاني من نقص في المياه الصالحة للشرب وانعدام قنوات الصرف فكانت الفضلات تجمع في حفر محاذية للمنازل.
والظاهر أن مثل هذه الأمراض المرتبطة بالفقر والأوساخ تغيب ولا تموت، وتعود ولو بعد حين مثلما كان الشأن مع الكوليرا التي غابت 20 سنة وعادت من جديد.

مقالات ذات صلة