أمير نور: “بن نبي” يَستبق إفلاس التاريخ!
أعود اليوم إلى كتاب “أمير نور” الموسوم “الإسلام ونظام العالم.. وصية مالك بن نبي” الصادر باللغة الفرنسية قبل شهرين كما كنت وعدت أن أفعل بالنظر لأهميته (انظر مساحة أمل 18 ديسمبر الماضي). ويتعلق الأمر بمسألة لها علاقة بمرحلة الفراغ الفكري والاستراتيجي الذي نَمُر به، وبالكيفية التي بدأ العالم اليوم يتلمس فيها مخارج جديدة للعقود القادمة في ظل حالة الارتباك والحيرة التي أصبح يعيشها على كافة الأصعدة خاصة بعد كوفيد 19…
لقد نَبَّه الكاتب من البداية إلى مُخلَّفات الارتياب واللاَّيقين الكبيرين السائدين في عالم ما بعد كورونا. إن المسألة باتت تتعلق بعدم القدرة على فهم ما يحدث، فما بالك بما سيحدث، وبعدم القدرة على مُتابعة تطور الأحداث فما بالك بالتحكم فيها، بل وبعدم القدرة حتى التحكم في مآلات الفرد ذاته على الصعيد العائلي الضيق. كما أنها أصبحت تتعلق بالتساؤل حول كفاءة الحكومات، وصعود الشعبوية وتهميش الخبرة، وانحصار التعددية في العلاقات الدولية، وفوق ذلك التراجع الواضح لما اعتبره الغرب نهاية التاريخ، أي الديمقراطية الليبرالية… أي أننا كمجتمعات ننتمي لهذا العالم في حاجة إلى التعامل مع هذه الحالة الفكرية والوجدانية غير المسبوقة في تاريخ البشرية بفعالية وعدم الاكتفاء بالامتناع عن أن نكون جزءا من سيناريوهات الآخرين، بل أن نكون من صانعي هذه السيناريوهات المستقبلية، ولكن كيف؟
لعلها هذه هي فكرة الكتاب الأساسية: كيف لنا أن نكون في ظل نظام العالم السائد اليوم؟
وهنا يستلهم الكاتب الجواب من وصية مالك التي تركها في شكل محاضرتين (مُلحقتين مترجمتين بالكتاب)، الأولى ألقاها في 28 مارس من سنة 1972 بدمشق برابطة الحقوقيين تحت عنوان “دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين”، والثانية ألقاها بنفس المدينة في مسجد المرابط بتاريخ 22 ماي 1972 تحت عنوان “رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين”.
وفيهما نجد بالفعل ليس فقط الإجابة عن كيف كان ينبغي علينا التصرف في نهاية القرن الماضي إنما كيف علينا وعلى العالم أن يتصرف بعد هذا التيه الثالث اليوم؟ (بعد 1881، وبعد 1945، والآن ما بعد كورونا).
لقد كان “مالك بن نبي” يتحدث في وصيته قبل نصف قرن من الآن عن “تضخم الإمكان الحضاري وتضاؤل الإرادة الحضارية للمجتمع الأمريكي” (المحاضرة الأولى ص 189 من الكتاب) وكأنه يرى أمريكا اليوم، وعن كون التاريخ ينبغي أن يفلس ـ وكأنه يتنبأ بمصير نظرية “فوكوياما” – حيث يقول: “يجب أن يفلس التاريخ كي نُشعِر الناس وخصوصا الشباب بأن هذا الإفلاس هو طريق البداية” (المحاضرة الأولى ص 190 من الكتاب)، وذلك لتفسير تلك الحالة التي تعتري الغرب من قلق وتيه وحيرة. كما كان يتكلم بشكل واضح عن السبيل الذي ينبغي أن يسلكه المسلم أمام هذه الحالة. إنه يشير في محاضرته الثانية، واستند إليها الكاتب في تقديم البديل، إلى مسائل في غاية الأهمية تخص طبيعة الأزمة المادية التي نعيشها نحن وتخلفنا الاقتصادي، إلا أنه يعتبر ذلك أهون من تلك التي تمس جوهر الكيان الغربي وكرامته وتكريمه وإنسانيته “لقد تركت أوروبا في سلة مهملاتها كل قداسة للأشياء وكل القيم المقدسة وفي آخر المطاف دار عليها صولجان عملها وطغيانها العقلي”، وعليه فإن رسالة المسلم تكمن اليوم في إنقاذ نفسه وإنقاذ الآخرين عن طريق الاقتناع والإقناع، ولكي يتمكن من ذلك عليه الرفع “من مستواه رفعا يستطيع فعلا القيام بهذا الدور”… ولعل هذا ما سعى الكاتب إبرازه بين ثنايا كتابه من خلال قراءة مقارَنة مع آخر ما أنتجه مفكرو الغرب المعاصرون… يتبع