-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أنـا والكلمـة الجميلـة

أنـا والكلمـة الجميلـة

كنت في الصبا أعجب بالكلمة الجميلة، أنصت لها، أتمتع بحسنها، يشدني جرسها، يخلبني سرها، يدهشني أسرها، أسمع الكلمة البليغة من النثر والشعر فأجد لذة في سماعها، وتغمرني فرحة في تأمل بيانها، فالبيان سواء كان قرآناًَ أو حديثاً أو شعراً أو رواية هو منتهى الإبداع لدي، وأحياناًَ أتناول كلمات من القرآن فأقرأ ما كتب عنها المفسرون والبلاغيون ثم أعود بنفسي متأملاً متفكراًَ متدبراًَ، فأجد لها في أعماقي معاني لا أستطيع أحياناً أن أعبر عنها بلساني، وكم هي الآيات التي هزَّت كياني، وحركت أشجاني، وزلزلت أركاني، وقد تكون هذه الآيات وعظاً، أو قصصاً، أو حواراً، أو خطاباً، أو وصفاً، المهم أنني أعيش مواقف من التأثر لروعة البيان وجمال الخطاب.

وصلينا في الحرم المكي صلاة التراويح فرفع الإمام صوته بقوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك..) الآية “محمد: 19″، وارتج الحرم بالصوت، ولكنه بلغ الأعماق فلا أدري هل أعجب من هذا البيان الآسر، أم من هذه الفخامة والإشراق والإعجاز، أم من هذا الصدق واليقين والعدل؟!

كنت أقف على بعض الجُمل من القرآن فأفصِّلها كلمة كلمة كما يفصل الدر من عقده، والجوهر من خيطه، وقفت مرة عند قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد ) “ق: 10” فتأملت كلمة (باسقات) وجمالها، فإذا لها مدلول غير مدلول طويلات؛ لأن الباسق الطويل في حسن ورواء، وكذلك كلمة: (طلع) كيف اختارها من بين كلمة ثمر وحب وتمر ورطب وبسر ونحوها وكلمة: (نضيد) وما فيها من جمال ودلالة وإشراق يذكرك بالعقد الزاهي من الجوهر.

وقرأت قوله تعالى عن كتابه: ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) “فصلت: 42” فهزني هذا الكلام الجليل، ثم عدت إلى مصطفى صادق الرافعي، فإذا هو مندهش لهذه الآية، مأسور لجزالتها وفصاحتها. ومرت به آية: (.. فجعلناهم أحاديث..) “سبأ: 19” فوقف متأملاً صامتاً منبهراً من هذه الإجادة والإيجاز والإعجاز، ثم طالعت مذكرات الإبراهيمي الجزائري فإذا هو يدبج أروع الكلام عن هذه الآية، ويعلن دهشته من هذا الكلام المشرق السامي الراقي.

وعشت مع سورة الجن، فكأني في عالم الحنين والأنين، يبهرني اللفظ ويأسرني المعنى، وتذهلني الفصاحة، ويهزني الإعجاز، ثم أعذر الجن وهو يقولون ( إنا سمعنا قرآناً عجباً)، وأقرأ كلام سيد قطب فإذا هو يعيش تلك اللحظات من الانبهار والدهشة لهذا الكلام، وكم هي الآيات التي أوقفتني وسلبت لبي، وذهب بي الإعجاب بها كل مذهب، وتمنيت أن عندي من البيان ما يعبر عما يدور بخلدي من معان كامنة مستورة في الحشا، وكنت أردد آية: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ) “هود: 44″، فأعيد النظر فيها وأعرضها على بعض الأصدقاء ليشاركني هذه المتعة، ثم أجد عبد القاهر الجرجاني يبسط الكلام عن إعجاز هذه الآية ووجه البيان والبديع فيها.

ووقفت عند آية: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.. ) “المائدة: 64″، فعجبت لقوة هذا الحديث الذي ينسف قلاع الباطل، ويحطم أسوار الزور، ويجتث شجرة العناد والتمرد.

وطالعت عالَم البيان في حديثه، وتأملت أحاديثه العِذاب الرطاب، وكلامه الجزل الفخم، وذهبت مع الشعر فحفظت منه الكثير ورويت الكثير، ولكن الذي أحفظه هو الذي يعجبني ويطربني.

وسافرت مع المحدثين، والنقلة، والمؤرخين، والمفسرين، وأهل اللغة والأدباء، أقف مع الرائع الجميل من كلامهم، وأعيد القطعة الماتعة من كلام الذهبي، والوقفة الصادقة لابن تيمية، والمقولة المؤثرة لابن القيم، والمداخلة الخلابة للجاحظ، والعرض الشائق لابن خلدون ونحوهم، وأكثر ما يشدني في ذلك، البيان وحسن السبك، وجمال اللفظ، وقوة المعنى، وسطوع البرهان.

جلست مع صديق لي فقرأت عليه هذه القطعة للجاحظ إذ يقول: “جعلت فداك، وإنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل؛ وإن كثرت محاسنه، وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، ولأنك متى كنت للشيء متوقعاً، وله منتظراً، كان أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدى إليك، وكل منتظر معظَّم، وكل مأمول مكرّم، كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفاً بالاقتباس، وشحاً على نصيبي منك، وضناً بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك، ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر”.

كررت هذه القطعة الفائقة، فكأنني أجد طعمها في فمي قطعة من الشهد،وزلالاً بارداً من معين صاف، وبقيت أقلبها في عيني تقليب الدرة في اليد، والفكرة في القلب، والخاطر في الضمير، وأنت لو تأملت هذه القطعة النثرية الفائقة للجاحظ لوجدتها في أوج البيان، وقمة الفصاحة، بعيدة عن التزويق والتكلف، سليمة من التبذل والرعونة، ساحرة فاتنة.

وإنما ذكرت هذا مثلاً، وإلا فكم من مقالة وقطعة وقصيدة توقف اللبيب، وتدهش الفطن من حسنها وروعتها.

أسمع الخطيب والواعظ والمعلم والمفتي والشاعر والمحاضر فلا يملك إعجابيَ إلاَّ المتفرد في بيانه، المتوحد في اختيار مفرداته، واصطفاء كلماته، وانتقاء جمله، أمَّا الهذر والحشو والإكثار، فكلٌّ يستطيعه وهو المبذول المملول المرذول المدخول!.

حدثني أحد الأدباء: أن (هتلر) أراد أن يلقي خطاباً للعالم يوم زحفت جيوشه إلى موسكو، يملأ به المكان والزمان، فأمر مستشاريه باختيار أقوى عبارة وأجملها وأفخمها يبدأ بها خطابه الهائل للعالم، سواء كانت من الكتب السماوية، أو من كلام الفلاسفة، أو من قصيد الشعراء، فدلَّهم أديب عراقي مقيم في ألمانيا على قوله تعالى: ( اقتربت الساعة وانشقَّ القمر ) “القمر: 1″ فأعجب (هتلر) بهذه الآية وبدأ بها كلمته، وتوَّج بها خطابه.

قف مع هذه الآية ورتِّلها وتأمَّلها لتجد فخامة في إشراق، وقوةً في إقناع، وأصالةً في وضوح.

وقرأت مقالة لأديب يهاجم أديباً آخر سرق له مقالات ونسبها إليه، فجعل عنوان هذه المقالة قوله تعالى: (أيتها العير إنّكم لسارقون ) “يوسف: 70″، فبقيت مع العنوان متأملاً مكرراً معجباً، وأهملت المقالة!؛ ولهذا فإنك تعذر كل من أسره القرآن واستمال قلبه وسيطر على روحه، حتى إن أحد العرب صلَّى خلف الرسول ^ فسمعه يقرأ: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً) “الطور: 13″، فكاد قلبه أن يطير، وسمع آخر قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) “الطور: 35″، فذُهل وتحيّر من بلاغتها وجمالها، وهذا الذي حمل الوليد بن المغيرة ليصيح صيحة المعترف ويقول: (إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه).

إن صرعى الشبهات لا يعجبهم القرآن، وإن عبيد الشهوات لا يهزهم هذا الكتاب العظيم؛ إن القرآن يعجب سليم الفطرة، بريء الضمير، حيَّ القلب، مشبوبَ العاطفة، متوقدَ الذهن، صافي القريحة، فهذه أرض طيبة خصبة لغيث البيان ومطر الفصاحة العذب.

مرت بي مئات المقالات والقصائد؛ فوجدتها ثقيلة وبيْلة لا تستحق العناية والمطالعة، مهلهلة السبك ضعيفة البناء، ركيكة اللفظ، ماتت قبل أن تولد، ودفنت قبل أن تحيا جزاءً وفاقاً، وبقيت الكلمات الآسرة الساحرة الساطعة خالدة خلود الحق، لامعة لموع الفجر، جميلة جمال الإبداع.

طالعْ كتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي، وكرر كلماته، وأعد جمله لتدرك سر شيوع هذا الكتاب وذيوعه وخلوده؛ إنها الفكرة الرائدة في ثوب جميل، والتوجيه الصادق في قالب بديع، والمعنى العميق في لفظ بهيج مشرق، يقول ابن الجوزي في كتابه طيب الذكر: (إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهممهم عند الثريا بل أعلى، إن عرفوا تنكروا، وإن رئيت لهم كرامة أنكروا، فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم أفلاك السماء، نسأل الله -عز وجل- التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم).. انتهى كلامه، ولكن لم ينتهِ أثره ولا نوره ولا أسره ولا جماله، إن البحث عن البيان في الكلام متعة لا يعادلها متعة ارتياد الروض الأخضر، والخميلة المائسة، ولا يعادلها مجلس أنس، أو رحلة سياحة، وقد وصف أحد البلغاء كلام أحد الأدباء فقال: إذا تحدث فكأن السحر دّبَّ في جسمك، وهذا معنى قوله: “إن من البيان لسحرا”، فهو يفعل السحر في خلبه للب السامع، يقول ابن الرومي:

وكلامها السحر الحلال لو أنه

لم يجنِ قتل المسلم المتحرزِ

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت

ودَّ المحدث أنها لم توجزِ

والكلمات الجميلة هي التي نُقشت في أذهاننا، وكتبت في قلوبنا، فبقيت وعاشت: أقرأ كلام علي بن أبي طالب، فأكرره كأنني أشرب زلالاً بارداً حلواً على ظمأ في قيظ، حتى عقد له ابن كثير في تاريخه فصلاً عنوانه: (باب في كلماته الحاصلة التي هي إلى القلوب واصلة).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • بدون اسم

    ااسف ان احدا لم يعلق .
    اشكر الدكتور على مقالاته الجميلة

  • diabetique

    السلام عليكم ورحمة الله
    أنا مصاب بمرض مزمن و أشار علي الطبيب أن أفطر لأن مرضي هو السكري و العلاج هو الحقن الأنسولين و مرتين في اليوم
    السؤال كم هو الوسط ما أطعم به لأخرجه في اليوم وهل أدفعه يوميا أو في نهاية الشهر أو بدايته أعلمكم أنني أعمل و لدي أجرة كما أعلمكم لم أجد من أطعمه لا في الحي و لا في الجوار
    وهل يجوز تقديمها لأحد الأقارب المعوزين و شكرا

  • عبد الفتاح

    قال الرحمان { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً } الأية رقم 56 من سورة الكهف.
    جاءنا الأنبياء بالآيات البينات وجاء الدجال بالمعجزات.
    إبحثوا في كتاب الله عن كلمة معجزة، و ستتعجبون أين إستعملها الله،
    و لماذا نبدل كلمة "آية" بكلمة "معجزة"
    عليكم بالكتاب الله و هذي نبيه محمد صلى الله عليه و سلم و الخلفاء الراشدين، و احدرو ما دون ذالك، السلام عليكم

  • صمادي سفيان

    بارك الله فيك لقد أصبت فصدقت وصدق شيخي الذي علمني فقال لي, الكلام إن كانت مصدرها القلب وقعت في القلب فصارت نورا والكلمة تطيب بصدق صاحبها فتكون عسلا يشفينا من السقم ,
    أما إن كانت الكلمة مصدرها من الحلقوم فهي زقوم ولا تصل القلب فتحرك جوارحه لا تحرك روحه فيكون مداها لحضة لا نافعة ولا صائبة وإن كان صاحبها و السامع مؤجور عليها .
    أي الكلمة الطيبة قبس من كوكب ذري أومنارة ترشد السالكين إلى بر الأمان وطاقة سليمة تشحن العقل والفؤاد والجوارح وتجعل القائل والسامع على سرر متقابلين مأكلهم ومشربهم حلال .

  • امة الله بنت مجاهد

    السلام عليكم
    بارك الله فيك ايها الشيخ الفاضل، ذو الكلام الطيب والتعبير الفواح بعبق الحسن والابداع ، اللهم صلي وسلم على رسول الله .

  • Abdoo

    يا لروعة هذا الكلام

    ماشاء الله

    اللهم أذقنا حلاوة كلمات القرآن

    بارك الله فيك شيخنا

  • nounou

    alahom wafik chaykhana linousrat hada dina allaho akbar

  • tawfiq

    الله الله في أنفسكم و أخوانكم بلغوهم قبل أن يتخطفوهم على غفلة .. و إنه لمثوبة كبيرة و شجاعة عظيمة و شرف ان تخدموا أمتكم

    http://www.youtube.com/watch?v=rJe9T2FU2w8&feature=relmfu

    http://www.youtube.com/playlist?list=PL8F60A409EA311C41