-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أوهام البيئة الرقمية واستنساخ التجارب الفاشلة

أوهام البيئة الرقمية واستنساخ التجارب الفاشلة

منذ أكثر من عقدين خليا نشرتُ مقالا يجمع بين معارف علوم الإعلام والاتصال وتساؤلات فلسفة الحضارة والتاريخ في مجلة “العربي” الكويتية عدد 500 شهر جويلية سنة 2000م، عنوانه (وهمُ الدخول إلى الألفية الثالثة)، وأعدتُ نشره في مجلات وصحف عربية أخرى، وكان دافعي لكتابة هذا المقال ما هالني يومها من سلوكات وخطابات ودعوات عميّةٍ تخصص فيها –كعادتهم في كل مصر وعصر- كتّابُ الفتنة والتيه والضياع واغتنام الفرص وردم الفجوات وصناع الأزمات.. من المنفاقين وطلبة الدرهم والريال والدولار.

وما حفّزني أكثر لكتابته مقدار وحجم وكمّ حماسهم وهياجهم الأرعن.. وبما فجروا فيه وجأروا به من دعوات حداثية (تفكيك، تشكيك، تحلّل، تحرّر) مبتوتة الروح ممزقة الأوصال والآصال، وما أدركوا يومها بصيصا من –ولن يُدركوا حتى يلج الجمل في سَمّ الخياط- مصيرها وما ستؤول به من تداعيات كارثية على مستقبل العالم العربي والإسلامي.. المعطوبِ والمصابِ فرده وجماعته وسلطاته وكيانه بالعطالة والانتكاس والتبعية والتخلف.. وها نحن اليوم -للأسف الشديد- وبعد مرور أكثر من عقدين زمنيين مفرغين لا نشاهد تلك الانزلاقات والانهيارات فحسب، بل صرنا نشاهد وندفع ثمنها باهظا بين الأمم الناهضة والشعوب المتوثبة..

وسبب ذلك التداعي يعود بالأساس لخواء وتصّحرِ ساحتنا الفكرية والثقافية والأدبية الصورية الرسمية من مشاهد وسيول الخطابات الواعية البنّاءة والرشيدة، بمقابل من نصّبتهم السلطات الوصية في عالمنا العربي والإسلامي –طبعا عدا البعض- ليكونوا قادة للرأي والفكر، وأئمّة موجِّهين لحركية البوصلة والدفة الحضارية المراد صناعتها وبلورتها وتأصيلها لهذه الأمة اليتيمة. وتصوّر الكثيرون ممن يُحسبون في عداد قادة الرأي –للأسف- ومازالوا يتصوّرون أن التقدم بالأمة يكون عبر تكرار أخطاء سوء فهم نظرية أو جدلية أسبقية (الفكر والمعنى والمادة)، أو اقتراف جريمة التعامي عن حقيقة جدلية (البنية الفوقية والبنية التحتية)، أو بعبارة أوضح جهل قاعدة (أيهما أسبق للمبادرة والاعتناء: البنية الفكرية أم البنية المادية التحتية؟)، وبأيهما نبدأ وننطلق في تأسيس وبلورة رؤيتنا لمشاريعنا ونهضاتنا الحضارية، ولاسيما ما تعلق بمصير الأجيال والأمة.

ونسي، بل جهل قادة الرأي والخبراء المزيفون تحت إكراهات الفشل والأخطاء المتكررة والتخلف الذي يقعون في حباله دائما من جهة، والرغبة في تعويض الخسارة التي منوا بها أمام ثبات الأمم الناهضة العملاقة من جهة ثانية، أن عالم التحولات الحضارية مجالٌ بحثي معقد ومتشابك، لا يُحسنه كل الباحثين الجامعيين ولا خليط وهمّل المستشارين الفاشلين الذين تكلست عقولهم وخرقتْ علومهم وبليتْ معارفهم، أن هذا الفضاء العلمي والمنهجي والبحثي تشترك فيه جملة من العلوم والمعارف، وبنياتٌ من التجارب والخبرات والتراكمات والنتائج والمحاولات.. وتتقاطع بناه التحتية والفوقية والمسارية جملة من مناهج البحث العلمي المختلفة، التي هم عطلٌ وفقرٌ من فلسفتها وأصولها وأسسها وقواعدها ووسائلها، والتي هم بأمسّ الحاجة إليها عندما يريدون مقاربة تجربة من التجارب، التي سيترتّب عليها جملة من النجاحات أو الإخفاقات التي تتعلق بجيل بريء.

وقبل أن أتطرق إلى موضوعي حول ما جاء على لسان وزير التربية يوم الخميس 20/01/2022م تحت قبة البرلمان ليرد على تساؤلات بعض البرلمانيين الأحياء الضمير فيما يخص وضعية قطاع التربية والتعليم الذي يعاني من الإخفاقات والأعطاب والضبابية والفوضى والارتباك في ميادين تربوية وتعليمية وإدارية وتنظيمية كثيرة، وإجابته الخارجة عن السياق العلمي والحضاري والنهضوي المتعارف عليه عند أهل العلم والاختصاص، والتي دلف بها كسابقيه من الوزراء لكي يجد مخرجا يتهرّب به عن تقديم الإجابة الحقيقية عن تلك التساؤلات والمشكلات، فبادرهم بأنه: ((سيتم تجسيد، في إطار مشروع تعميم استعمال الألواح الإلكترونية بالمدارس الابتدائية، عمليتين قبل بداية الدخول المدرسي المقبل 2022-2023م هدفها تخفيض ثقل المحفظة)) (جريدة الشعب عدد 18766، السبت 00/01/2022م، ص 2).

وحتى لا نقع في الخطابات الديماغوجية الجوفاء، ونهتف للحداثة الفارغة كما هتف لها قادة الرأي المزيفين نهاية الألفية الماضية، عندما بشّروا بالانتقال من عصر الورق إلى العصر الإلكتروني والمعلوماتي بالفراغ والعبث، الذي دخله غيرُنا مستعدا له، وجامعا أدواته وحاذقا وسائله وأساليبه وكيفياته، ومتكيّفا معه تكيُّفا حقيقيا، فصنع بهندسته الرقمية نهضة فعلية وحقيقية لا شعارات جوفاء ذهبت في مهملات التاريخ.. ولكننا –للأسف الشديد- لم نصنع به سوى فراغ وخواء وفوضى رقمية رهيبة، إذ بعد أن توفرت الأجهزة الإلكترونية والرقمية بين يدي الجميع، واستخدمها من عرف قدرها وهم قلة، ومن لم يعرفها قدرها وفاعليتها وهي الغالبية الساحقة.

وصارت بين أيدي الهمّل والغثاء معرضا وبساطا للتفاهات والسقطات.. ومحضنا خصبا لسائر عمليات النصب والاحتيال والإجرام والإيقاع والجريمة السبرانية، وبه ومع هؤلاء دخلنا عالم الفوضى القيمية، وصار من لا يعرف، ومن لا يقرأ، ومن لا يعي، ومن لا يفهم، ومن لا يمتلك أدوات الفهم، ومن لا يكسب أدنى تخصص أو تجربة في حقله المعرفي أو المهني، يكتب، وأي كتابة؟ ويرد وأي رد؟ ويناقش وأي مناقشة؟ ويعلق وأي تعليق؟ وتكدس عندنا الجمع الغفير من الصبيان والصبيات الصغار، ومن المراهقين والمراهقات ومن كهول الناكصين والناكصات ممن لا يعرفون مواضع الهمزة، أو ممن لا يحسنون التفريق بين الضاد والظاء.. وممن لا يميز بين الصالح والفاسد.. ليردوا على كبار العلماء والفقهاء والمفكرين والكتاب والنقاد والمترجمين.. وحصل هذا الفساد كله بسبب جهل ودعوات المبشرين بالفتوحات العولمية والخطابات الحداثية.. دون التفطن إلى ما ستتركه من مخاطر وتبعات في البشرية يومها أو بعد عقد من الفوضى الدينية واللاتوازن القيمي والأخلاقي والسلوكي.

والجدير بالتنبيه هنا إلى أن الباحثين المتخصصين يعلمون علم اليقين مسار وتطور الحياة الإنسانية ويجزمون أن البشرية قطعت أشواطا كبيرة حتى انتقلت من مرحلة حياتية إلى مرحلة حياتية أخرى، ولو كنا نملك الخبراء المؤهَّلين لعلموا أن البشرية مرَّت بمرحلة الرموز أولا، ثم مرحلة المشافهة، ثم مرحلة الخطوط والحروف والكلمات، ثم مرحلة المطبوع، ثم مرحلة السمعي، ثم مرحلة البصري، ثم مرحلة السمعي البصري، ثم مرحلة الإلكتروني بعد مزج السمع والبصر والضوء والكتاب في الحاسب الآلي، ثم مرحلة الفضائي، ثم مرحلة الإلكتروني، ثم مرحلة الموجة الإلكترونية والاتصالية الخامسة التي لم نتهيأ لها بعد.

لو كنا نملك الخبراء المؤهَّلين لعلموا أن البشرية مرَّت بمرحلة الرموز أولا، ثم مرحلة المشافهة، ثم مرحلة الخطوط والحروف والكلمات، ثم مرحلة المطبوع، ثم مرحلة السمعي، ثم مرحلة البصري، ثم مرحلة السمعي البصري، ثم مرحلة الإلكتروني بعد مزج السمع والبصر والضوء والكتاب في الحاسب الآلي، ثم مرحلة الفضائي، ثم مرحلة الإلكتروني، ثم مرحلة الموجة الإلكترونية والاتصالية الخامسة التي لم نتهيأ لها بعد.

هذه المرحلة التي دخلناها نلعب ونتسلى وندردش ونتحاكى ونتفرج ونشاهد ونقتل الوقت، حتى صرت تدخل قاعات الدرس والإدارات والمستشفيات والأسواق والإدارات والبنوك وغيرها والكل يلعب بالأجهزة الحاسوبية.. فحن أمة لم نتهيّأ بعد للدخول في الألفية الثالثة كما كتبتُ قبل أكثر من عقدين من الزمن الضائع في الكذب والاحتيال على الأمة المسكينة.. وعليكم أن تروا حال أبنائكم الصغار والكبار في البيوت كيف ينظرون إلى تلك الأجهزة التي يستخدمها غيرُنا في بناء نهضته، ساعتها ستعلمون علم اليقين  كيف نمارس العبث فقط.

وما أحب أن أنبه إليه هنا أن هذا المشروع جميلٌ في بيئته الرقمية المتقدِّمة المتهيِّئة، التي استعدت له يوم أن كنا نحرق بعضنا بعضا، ونحتاج -لكي نصل إلى ما وصلوا إليه- إلى عقدين آخرين من الجهد والتهيئة والإعداد والبناء الروحي والنفسي والاقتداري الحقيقي، ونحتاج إلى سلطة رقمية وإعلام صادق، وإلى مصرف رقمي وإلى تاجر رقمي، وإداري رقمي وقاضي رقمي ومعلم رقمي، ومطار رقمي، ومحاسبة وضرائب رقمية، وإلى مستشفيات رقمية.. ولا يتأتى هذا يا سعادة الوزير باقتناء اللوحات فقط، وتسليمها لأطفال مخصوصين في بيئة العاصمة المحظوظة، بل يحتاج إلى توفير البيئة الرقمية التي ما زلنا لسنا أهلا لها، وإلاّ فأنتم تريدون فقط عقد صفقات استيراد لمنجزات لم نصنّعها وليست لدينا القدرة التأهيلية لتصنيعها.. لأننا أمة تتمرّغ في طين الاستيراد منذ قرون.

وما أحبُّكم أن تعلموه أخيرا، أن أي مشروع نهضوي لا ينطلق من فهم أصيل لمعادلة (جدلية الفكر والمادة) محكومٌ عليه بالفشل، وإليك مشاريع الجزائر كلها بدْءا من مشروع الثورات الثلاث للراحل (هواري بومدين ت 1978م) ومصير الألف قرية فلاحية، ومصير خزان الطعام الذي صار يستورد الطعام بعد تلك الثورات الفاشلة، وأن أي مشروع لا يراعي البيئة الدينية والثقافية والفكرية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية والانفعالية والذاتية والشخصية للفرد المراد توظيفه في المشروع، محكومٌ عليها بالفشل. وأن أي مشروع لا يفهم دوافع ومحركات وأهداف وغايات وسلوكات وتصرفات الفرد، محكومٌ عليه بالفشل.. ونحن نعرف شعبنا جيدا.. ولذا نطالب بإبعاد الفاشلين من تقرير مصير الأجيال، ونقول لكم: ألم تملّوا من استيراد وتطبيق التجارب الفاشلة؟ لقد مللنا من الكتابة في نقد الفشل منذ أربعين سنة، فمتى تملّون؟ ومتى نستيقظ على فجر النجاح والنهضة؟ أعتقد أنه مازال بعيد المنال في ظلال هذه الخطابات الديماغوجية.. أللهم اشهد أني بلّغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • محمد

    ما بقي من إيحاءات إلا أن تكرر"أنا ربكم الأعلى"أنت الذي تقول الحق وعلى الآخرين تطبيق إملاءاتك ويصمتوا لأن الحقيقة والمعرفة لا تصدران إلا منك.نحن لا ندافع عن أحد وكلامك حول الرقمية وأجهزتها ذكرتني بذلك الوزير للثقافة قبيل العشرية السوداء الذي منع الناس من نشر الهوائيات على السطوح لئلا نخسر ثقافتنا ونفقد استقلالنا لأنها وسائل تنزع عنا حضارتنا الراسخة وتفرض علينا العبودية الجديدة.إلا أن هذه الوسائل طغت على العالم كله ولم يقدم لنا ذلك الواعي الأوحد بعلمه أية وسيلة للتصدي لهذا العدو الجامح بل فقدنا كل شيء سوى الغرور بأننا خير أمة أخرجت للناس بفضل كفاح أبطالنا السابقين والمتكلمين البلغاء الحاضرين الذين برعوا في اللفظ ولم ينجزوا سوى الشتم والسب في أعراض من ارتكبوا خطأ إملائيا أو لحنا لغويا.متى يتحفنا العارفون بأمرنا باكتشافاتهم التكنولوجية واختراعاتهم النافعة في حياتنا وهم العلماء بين شعب أبقوه جاهلا.

  • المهتدي بالله

    وكيف سيجري الامتحان كتابيا ام رقميا؟؟