إذا غلى الشيء “أرخسنا أنفسنا”
تقول القاعدة الإسلامية الشهيرة “إذا غلى الشيء أرخسه بالترك”، وهي قاعدة اقتصادية حديثة أيضا، صارت الأمم الكبرى تلجأ إليها حتى تنهار الأسعار، وكثير من الدول العظمى تلجأ إلى هذا الأسلوب في أسواق النفط العالمية أو على الأقل توهم الدول النفطية بتركها للسلعة الغالية وحديثها الوهمي عن وجود فائض في تخزين النفط حتى ترخّسها بالترك، وتنجح في أن تشتري بعد انهيار الأسعار ما شاءت، وبالثمن الذي تريده.. ولأننا لا نتبع في طريقة استهلاكنا لا القاعدة الإسلامية ولا القاعدة الغربية فإننا نقوم بترخيس أنفسنا بدل ترخيس البضاعة كلما غلت الأشياء.
-
أمام الهجوم الكاسح الذي تعرفه الأسواق الجزائرية من المستهلكين منذ الأنفاس الأولى لشهر الصيام، لا أحد الآن بإمكانه أن يصدق أن ثمة فقراء في بلد، اللحوم فيها هي الأغلى في العالم ومع ذلك تشترى بهذه الكمية الغريبة، ولا أحد يصدق أن هناك فقراء والناس تشتري الضروريات والكماليات الغذائية بأدق تفاصيلها وأحيانا من دون أن تسأل عن الأسعار.. لأجل ذلك يصبح أي تحرك من الحكومة من أجل كتم أنفاس الجشع من غير طائل مادام رب الضرر للدف ضارب وللرقص ممارس.. هذا طبعا إذا فكرت الحكومة أصلا في التحرك.
-
في الأردن أضرب المواطنون بكل فئاتهم بما فيهم رجال الدولة عن تناول اللحوم من أجل تحطيم أسعارها فأصيبت سلعة الجزارين بالكساد، فرفعوا الراية البيضاء مستسلمين لترخيس بضاعتهم، وفي البرازيل وأمام ارتفاع أسعار النفط في صعودها التاريخي السابق لجأت الدولة لرفع أسعار البنزين فأرخسه بالقوة.. المواطنون عندما تركوه نهائيا وأضربوا عن استعمال سياراتهم، وفي أندونيسيا إنهارت أسعار الخبز عندما قرر السكان أن يرخّسوها بالترك والصوم الدائم عندما حاول التجار رفع أسعارها، وفي إيران لجأ الشاه في سبعينيات القرن الماضي إلى رفع أسعار الدخان فأعلن المدخنون المدمنون عن توقفهم عن تعاطي السجائر في حركة حضارية أغلقت على إثرها شركات مارلبورو ووانستن مصانعها، وهي لا تختلف عن تحرك الشعوب التلقائي لأجل إجهاض أي محاولة من الجشعين وحتى من الدولة للعب بعرق جبينهم ضمن القاعدة الشهيرة “إذا غلى الشيء أرخسه بالترك”.. خاصة إذا كان هذا الشيء لا معنى له مثل “البقدونس والباذنجان والزبيب”.
-
الحديث عن أزمة تضخم وارتفاع أسعار لا معنى له في بلد صار الآن في المركز الأول في العالم في استيراد القمح والسكر وبقية الضروريات والكماليات.. فكلما غلى عندنا سعر “الإسمنت والحديد” إلا وأرخسنا لأجله أنفسنا بالتورط في المحسوبية والرشوة، وكلما غلت أسعار السيارات وقسيماتها وبنزينها إلا وأرخسنا أنفسنا بوباء التباهي في اقتناء آخر الصيحات، وكلما غلى سعر المواد الغذائية في رمضان إلا وأرخسنا أنفسنا بتحويل شهر الصيام والامتناع عن الأكل إلى شهر للتخمة والتبذير.. أسوأ ما في الشعوب مهما اختلف تاريخها وجغرافيتها هو أن يغلى فيها كل شيء… نعم كل شيء إلا…