الرأي

إلى السيد الوزير الأول: متى ستهتمون بالنخب العلمية؟

السيد الوزير الأول: ليس من عادتي مراسلة أي مسؤول سياسي، ولم يسبق لي أن فعلت ذلك قط.لكن متابعتي لتلاميذ الجزائر الذين كان لكم شرف تكريمهم بعد نجاحهم الباهر في أولمبياد الرياضيات العالمية جعلني أشعر ببعض الثقة في السلطات العمومية في باب الاهتمام بالنخب العلمية… إذ لا شك أنكم تعلمون بأن تقدم أي بلد لا يمكن أن يتحقق بدون الانشغال بتكوين النخب.

قلت أن ما جعلني أكاتبكم علنًا هو أن هناك من الزملاء الخيّرين -الذين لا يرجون جزاءً ولا شكورًا من وراء سعيهم إلى تكوين النخب- قد لاحظوا في موقع الوزارة الأولى نافذة يمكن للمواطن مراسلتكم شخصيا من خلالها. فبادر هؤلاء الزملاء وراسلوكم مرتين على الأقل في المدة الأخيرة حول الموضوع من خلال هذا الموقع. وكانوا ينتظرون أن يصلهم منكم، أو ممن يتولى هذا الأمر من حاشيتكم، ما يفيد الاستلام، لكن ذلك لم يحدث ! أما فحوى المراسلتين فيقدم مقترحات في باب تكوين النخب دون تكاليف تذكر.

السيد الوزير الأول : ليس هناك من ينكر فضل ديمقراطية التعليم كسياسة سمحت بتكوين الملايين من المواطنين في البلاد منذ الاستقلال. وكم جميلا أن نرى الجامعات الجزائية اليوم تغص بمليون ونصف المليون طالب. وكم هو أجمل أن نلاحظ الملايين والملايين ينهلون من العلم في المستويين المتوسط والثانوي. وكم هو أجمل وأجمل أن ندرك بأن جلّ الأطفال في البلاد مرّوا ويمرون بالمدرسة الابتدائية.

لكن هذه الديمقراطية لها عيوبها ككل الاختيارات السياسية الكبرى في أي بلد كان. ولا بد أن نسارع إلى تصليح العيوب فالزمن لا يرحم. من المعلوم أنه لا يمكن لأية دولة أن توفر التعليم المتميز لجميع التلاميذ. ولذا فإن الخلط بين الغث والسمين يعتبره البعض، أو الكثير، جريمة في حق فئة التلاميذ والطلبة النجباء الذين يُعَول عليهم قبل غيرهم في بناء البلاد مستقبلا : على سبيل المثال، كيف نسمح لأنفسنا اليوم بأن نضع جنبًا إلى جنب التلميذ أو الطالب المتحصل على 18/20 في الباك والمتحصل على 10/20؟

إليكم مقترحات في هذا الباب يمكن النظر فيها في سبيل إنجاز “مشروع تكوين النخب العلمية” :

 1) تخصيص قسم في كل مدرسة وتكميلية وثانوية للنجباء من التلاميذ تتم العناية فيه بهؤلاء ليواصلوا تألقهم.

2) العمل مستقبلا على أن تكون في كل ولاية ثانوية متميزة، يكون تلاميذها أو جلهم من المتميزين يدرسونهم أساتذة متميزون.

3) العمل على إنشاء، في كل جامعة وفي كل كلية، مجموعة خاصة section أو فوج groupe للمتازين دون غيرهم، بدءًا من السنة الأولى حتى سنة التخرج. وفي هذا السياق، كنا اقترحنا في المراسلة المذكورة البدء مثلا بفتح مجموعة من هذا القبيل في جامعة باب الزوار لأولئك الذين كرمتموهم ولأمثالهم.

4) العمل على اعتبار مدرسة عليا للأساتذة (من بين المدارس الموجودة) كمدرسة عليا ذات طابع وطني يلتحق بها وطنيًا أحسن الطلبة. ويقع على عاتق هذه المدرسة تكوين هؤلاء أفضل تكوين ليصبحوا قدوة في سلك التعليم المتوسط والثانوي. ولعل مدرسة القبة (للمواد العلمية) ومدرسة بوزريعة (للعلوم الإنسانية) هما الجديرتان بهذا التفضيل لعراقتهما وإمكانياتهما غير المتوفرة في المدارس العليا الأخرى الحديثة العهد.

5) العمل على تكوين أساتذة مبرزين agrégés في المواد العلمية والأدبية يتمتعون بكفاءات عالية لينتشروا عبر الثانويات في الوطن، وليكونوا المراجع في التدريس من الناحيتين البيداغوجية والعلمية. فبدون هذا السلك من الأساتذة لن يعرف التعليم الثانوي التقدم المنشود. يبدو في هذا السياق أن المدرستين المذكورتين (القبة وبوزريعة) قادرتان على التكفل بهذا المشروع (مشروع التبريز) الذي وُلد في السابق ميتًا… وقد حان الوقت لإحيائه.

6) العمل على دفع المؤسسات التعليمية إلى تنظيم مسابقات ومنافسات علمية ولائية وجهوية ووطنية، ثم المشاركة في المنافسات المغاربية والمتوسطية، والإفريقية، والعالمية، وهذا في جميع مواد التعليم. الهدف من ذلك التحفيز الجماعي على طلب العلم والتألق فيه.

7) تشجيع النخب بكل الوسائل المتاحة لدى السلطات (وهي أعلم منا بما يجب أن يكون) لتحفيز من هاجر البلاد من خيرة أبناء الوطن على تقديم خبراته إليه عن قرب أو عن بعد. كما لا ينبغي ألا نتوانى في تخصيص منح للنجباء والعمل على أن يستفيد منهم الوطن لاحقا بأي شكل من الأشكال.

8) في مجال البحث العلمي ليس هناك من ينكر أن أموالا طائلة تصرف، بل ثمة من يرى فيها تبذيرا لا يطاق. لا بد من ترشيد ذلك، وخير دليل على سوء التسيير هو ما حدث مثلا في ما أطلق عليه “مشاريع البحث الوطنية” PNR في السنوات الماضية.

وخلافا لذلك نرى شح الدولة في أمر مثل تكوين نخبة الأولمبياد العالمية في الرياضيات خلال هذه السنة. فلا أدري هل تعلمون ما كلف الدولة هذا التدريب الذي حصلت من خلاله الجزائر على أحسن رتبة عرفتها في جميع مشاركاتها؟ لقد كلف الدولة تذكرة طائرة واحدة من بدايته (في سبتمبر 2014) إلى نهايته (في جويلية 2015)! أما الباقي فهو من تطوّع أستاذ واحد (هو الأستاذ مليك طالبي الذي كرمتموه في الحفل)، ومن مال المحسنين والمتبرعين. هل تعتبرون هذا سداد رأي؟ وجدية في المسؤولية عندما يتعلق الأمر بتكوين النخب؟

9) العمل على إنشاء وكالة لها بعض الاستقلالية يشارك في تمويلها الجميع (الدولة والخواص) تُعْنَى بتكوين النخب وتتابع هذه القضايا في مختلف المستويات، وتسهر على إنجاح هذا المشروع الوطني.

10) لقد تقرر تأسيس “أكاديمية العلوم والتكنولوجيا” في الجزائر، وأثنى عليها من أثنى وأدانها من أدان. ولكل موقفه منها من أساتذة الجامعات، وهذا ليس موضوعنا الآن، وإنما المهم هو في مدى فعالية دور هذه المؤسسة في رسم إستراتيجية للحكومة في مجال البحث العلمي والتعليم والتربية بوجه خاص.

ولعل المكان هنا يناسب للتذكير بأن لبلدنا أكاديمية (مَجْمَعًا) للغة العربية أنشئت منذ بداية القرن. هل بإمكان أحد أن يذكر لنا منجزات هذه الأكاديمية؟ أن يذكر إنجازا واحدا باستثناء تنظيم ملتقى أو مؤتمر من حين لآخر؟! ويمكن أن نورد أمثلة مشابهة أخرى في مؤسسات تابعة للدولة أنشئت بدون روح، لا تؤدي الدور المنوط بها رغم ما لديها من إمكانيات. نتمنى صادقين ألا يكون ذلك مصير أكاديمية العلوم والتكنولوجيا على الأقل.

لا نعتقد أن مشروعا كهذا –مشروع تكوين النخب العلمية- سيكون عبئا على الدولة من الناحية المادية. وما من شك أنه -إن انطلق- فسيحقق الكثير وسيسهم فيه الكثير من الخيرين ماديًا وعلميًا… وفي ذلك خير كثير يفوق خيرات مداخيل النفط والغاز!

مقالات ذات صلة