-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأرض المسطّحة! مرّة أخرى!

سلطان بركاني
  • 2161
  • 0
الأرض المسطّحة! مرّة أخرى!

على خلاف ما يظنّ كثير من المهتمّين بالردّ على السلفية التقليدية وتتبّع زلات وسقطات علمائها، فإنّ إنكار كروية الأرض، لم يعد رأيا شاذا لبعض الظّاهريين من دعاة وأتباع هذه الطّائفة الذين لا يبدون أيّ تحمّس للرّبط بين العلم والدّين، ويرون أنّ كثيرا من الجهود التي يبذلها النّاشطون في هذا المجال، هي في أغلب الأحيان والأحوال تكلّف زائد، وربّما تكون مجازفات غير محمودة العواقب، على اعتبار أنّ العلم التجريبيّ جلّه ظنيّ، وقد يقول علماء الطّبيعة القول اليوم ويرجعون عنه غدا.

لم يعد الظّاهريون من أتباع السلفية التقليدية هم وحدهم من يجازفون بإنكار كروية الأرض، فقد استهوت هذه الفكرة بعض الشّباب الجامعيين وبعض النّاشطين على مواقع التواصل الاجتماعيّ في الآونة الأخيرة، فأخذوا يدافعون عن فكرة “الأرض المسطّحة”، ليس استنادا إلى ظواهر بعض النّصوص الدينيّة كما هو الشّأن عند ظاهرية السلفيين، وإنّما استنادا إلى مقالات ومقاطع “فيديو” انتشرت بشكل واسع على الإنترنت، تتضمّن ما يراه هؤلاء الناشطون أدلّة “علمية” مقنعة تثبت أنّ الأرض مسطّحة، تضاف إليها أسئلة وإشكالات “علمية” يرون أنّها تدحض فكرة كروية الأرض!

“مجتمع الأرض المسطّحة” وارتباطه بـالكتاب المقدّس!

لقد تحمّس بعض الشّباب المتعلّمين لهذه الأدلّة ونحا كثير منهم إلى تبنّي ما تضمّنته من أفكار، من دون أن يمحّصوا مصدرها ويبحثوا عن الجهة التي تقف خلفها. ولو أنّهم فعلوا ذلك لوجدوا أنّ فكرة “الأرض المسطّحة” التي أعيد طرحها بدءًا من خمسينيات القرن الماضي، هي فكرة مشبوهة، تقف خلفها جهة مشبوهة؛ تزعم أنّها تستند إلى الأدلّة التي يشهد لها الحسّ والواقع لإبطال ما أسمته “فرية” الأرض الكروية التي اختلقت –حسبهم- لنشر الإلحاد وتكذيب الأديان، ومحاولة الالتفاف حول مركزية الأرض واصطفائها!

الحقيقة التي يشهد لها التاريخ أنّ فكرة الأرض المسطّحة هي فكرة أطلقت للدّفاع عن الهرطقات النصرانية، أسّست لها ودافعت عنها جماعة تسمّى “مجتمع الأرض المسطّحة”، يعود تأسيسها إلى الباحث البريطانيّ “صامويل شنيتون” الذي أنشأ في العام 1956م المجتمع الدولي لأبحاث الأرض المسطحة “International_Flat_Earth_Research_Society”، وأنشأ علما خاصا به للكون، استند فيه إلى سفر التّكوين من “الكتاب المقدّس”، وزعم أنّ كروية الأرض هي فرضية تخالف الحسّ والمشاهدة، وضعها العلماء من دون أيّ دليل!، وظلّ متشبّثا بهذا الطّرح حتى بعد أن أمكن علماءَ الفضاء الحصولُ على صور للأرض بالأقمار الاصطناعية، واتّهمهم بفبركة الصّور لأغراض مادية إلحادية!

زعم “شنيتون” أنّ الأرض قرص مسطح، مركزه القطب الشمالي، أمّا القطب الجنوبيّ فلا يعدو أن يكون جدارا ثلجيا يحيط بالأرض! وبعد أن بدأت رحلات الفضاء وأطلق مشروع “المسبار القمريّ” الذي قدّم صورا غطّت 99 % من سطح القمر، زعم “شنيتون” أنّ “علم الفلك” ورحلات المراكب الفضائية هي “إهانة لله وأنّها ستجلب العقاب الوخيم للبشرية قريبًا”!

بعد وفاة “شنيتون” سنة 1971م، استلم الإنجيليّ الأمريكيّ “تشارلز كينيث جونسون” رئاسة “مجتمع الأرض المسطّحة” الذي وصل عدد أعضائه إلى 35 ألف عضو!، وقد ذهب “جونسون” بعيدا في معاداة علماء الفضاء إلى حدّ الزّعم بأنّ العلم قد يتحوّل إلى سحر يشغل النّاس عن الدّين!

كاد مجتمع الأرض المسطّحة يؤول إلى الزّوال مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مع انفضاض أعضائه بعد توالي الاكتشافات العلمية التي جعلت “كروية الأرض” من المسلّمات، لولا أنْ قام “دانييل شنيتون” بإعادة إحيائه، حيث أنشأ له موقعا على الإنترنت، تمّ تجديده في العام 2009م ليجمع أكبر قدر ممكن من المقالات والمقاطع التي تدعم فكرة الأرض المسطّحة.

الفكرة إذن لا تعدو أن تكون نزعة إنجيلية يحاول المروّجون لها الدّفاع عن هرطقات الكتب النّصرانية المحرّفة متذرّعين بالتّشكيك في الاكتشافات العلمية وطرح إشكالات وشبهات عليها، وإن حاولوا إخفاء الدّافع الدّينيّ إلا أنّهم يعترفون بأنّ مؤسّسي “مجتمع الأرض المسطّحة” كانوا مدفوعين بنصوص “الكتاب المقدّس”، كما أنّ موقعهم على الإنترنت لا يزال يتّهم علماء الفلك بالتّرويج لكذبة كروية الأرض لغرض مخالفة نصوص الإنجيل التي تشير إلى أنّ الأرض مسطّحة!

يدٌ ماسونية وراء فكرة الأرض المسطّحة

على خلاف بعض الباحثين الذين يرجعون جذور فكرة “الأرض المسطّحة” إلى “صمويل شنيتون” (ت 1971م)، فإنّ باحثين آخرين ينسبون فكرة “الأرض المسطّحة” في العصر الحديث إلى الكاتب والمخترع الإنجليزيّ صاحب التوجّهات الماسونية “صموئيل روبوثام”، الذي أجرى في العام 1838م تجارب حاول من خلالها إثبات كون الأرض مسطّحة.. ومع أنّ العلماء أثبتوا خطأ تجاربه بالأدلّة القاطعة، إلا أنّه ظلّ متمسّكا بنتائجها وأطلق ما أسماه “Astronomy Zenitic”، وألّف في العام 1849م كتابا عنوانه “Earth not a globe”، بسطه وتوسّع فيه أكثر سنة 1865م، وكان يقول “إنّ علم الفلك الحديث يناقض الكتاب المقدّس، بينما الكتاب المقدّس يتّفق مع ما تثبته الحواسّ والمشاهدة بأنّ الأرض مسطّحة ولا تتحرّك”.. توفي “روبوثام” في العام 1884م، وقد كشفت شهادة وفاته أنّه يحمل لقب “السير” الذي يعطى لأتباع الأخوّة الماسونية!

أيا يكن المؤسّس، فإنّ الفكرة -كما هو ظاهر- تستند إلى هرطقات النّصرانيّة التي عادت العلم والعلماء في القرون الوسطى استنادا إلى نصوص “الكتاب المقدّس”، ونحن لا يعنينا ولا يضيرنا أن تكون النّصوص التي استندوا إليها صحيحة أو مختلقة، ولا يضيرنا أن يكون الخلل في النّصوص أم في تفسيرات رجال الكنيسة، لكنّ الذي يضيرنا هو أن ينساق بعض شباب المسلمين لهذه الهرطقات المتلبّسة بالعلم، وينخرطوا في الدّفاع عن فكرة الأرض المسطّحة وفي الترويج للمقالات والفيديوهات التي يطلقها هذا المجتمع المشبوه الذي لا يبعد أن يكون إنشاؤه فكرة ماسونية، الغرض منها الإزراء بالأديان، وهو ما يؤدّي بالضّرورة إلى اتّساع رقعة الإلحاد، خاصّة وأنّ الخصومة مع العلم هي في واحدة من المسلّمات العلميّة.

علماء المسلمين أجمعوا على كروية الأرض قبل النّهضة العلمية الحديثة

إنّنا معاشر المسلمين في غنى عن تبنّي هرطقات النّصارى ومحاولات بعض متعصّبيهم إثبات أحقية الكتاب المقدّس.. كتابنا الخالد القرآن الكريم لا يحتوي نصا واحدا صريحا يشير إلى أنّ الأرض مسطّحة، وكلّ النّصوص التي يستدلّ بها بعض من قلّ فقههم لكتاب الله هي نصوص تقتطع عن سياقاتها، ولا تتحدّث عن الأرض ككوكب وإنّما تتحدّث عن الأرض كمساحة وموطئ، كمثل قوله تعالى ((وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) (الغاشية، 20)، الذي يأخذه بعض المتعجّلين من سياقه ليثبتوا به أنّ الأرض مسطّحة! هذه الآية جاءت في سياق دعوة المشركين للنّظر إلى ما حولهم من مخلوقات الله المسخّرة لهم، ((أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الأبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)))، فالسياق سياق دعوة للمخاطَبين للنّظر إلى ما تدركه أبصارهم.. يقول الإمام النيسابوري (ت 850هـ) رحمه الله: “وكذا السماء والأرض والجبال دلائل الحدوث فيها ظاهرة… والمراد بالنّظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال، بدليل قوله كَيْفَ خُلِقَتْ، كَيْفَ رُفِعَتْ، كَيْفَ نُصِبَتْ، كَيْفَ سُطِحَتْ، وليس في السّطح دلالة على عدم كروية الأرض، لأنّها في النّظر مسطّحة، وقد تكون في الحقيقة كرة، إلاّ أنّها لعِظمها لا تدرك كرويتها”.

النصّوص التي تتحدّث عن الأرض ككوكب، تشير إشارات واضحة إلى كرويتها، مثل قوله تعالى ((خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّار)) (الزّمر، 5)، وقوله سبحانه ((وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)) (النّازعات، 30)، والدّحي في لغة العرب من معانيه: جعل الشّيء على هيئة البيضة، يقال “دحى الخبّاز العجينة”، أي “جعلها على هيئة البيضة”.

إنّه ليس يليق أبدا أن يتمسّك بعض المتعجّلين بنصوص لا علاقة لها بالحديث عن الأرض ككوكب، في زمن ثبت يقينا أنّ الأرض كروية، بينما كان أعلام المسلمين في قرون سبقت النّهضة العلميّة مجمعين على أنّ الأرض كروية، قال ابن تيمية (ت 728هـ/ 1263م) رحمه الله: “وكذلك أجمعوا (العلماء) على أنّ الأرض بجميع حركاتها من البرّ والبحر مثل الكرة… ويدلّ عليه أنّ الشّمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب” (مجموع الفتاوى، 25/195)، وقبله قال الإمام ابن حزم الأندلسيّ (ت 456هـ) رحمه الله: “إنّ أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم -رضي الله عنهم- لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنّة قد جاءت بتكويرها، قال الله عز وجل: ((يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْل)). وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، مأخوذ من كور العمامة وهو إدارتها، وهذا نص على تكوير الأرض” (الفصل في الملل والأهواء والنحل، 2/ 78).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!