-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الانقلاب الفاشل والكيان الموازي

التهامي مجوري
  • 3406
  • 2
الانقلاب الفاشل والكيان الموازي

مصطلحان شاعا مع المحاولة الانقلابية في تركيا، وهما “الانقلاب الفاشل”، و”الكيان الموازي”، فهما مصطلحان معروفة دلالاتهما، ولكن العلاقة بينهما غير واضحة؛ لأن الانقلاب في العادة ينسب للجيش، بما في ذلك الانقلاب الأبيض الذي لا تستعمل فيه القوة، اما الكيان الموازي فقد يكون من داخل الجيش أو من خارجه، أي هو قوة خفية عن الأنظار.

أما وصف الانقلاب بالفشل فإنه أفشل في ساعاته الأولى، ولم يستطع لملمة نفسه؛ بل عجز حتى عن المقاومة، مما يعني أن هذه المحاولة كانت محاطة بقدر كبير من الثغرات التي لا تخفى عادة عن الانقلابيين، وأبرزها كما قال الجنرال ويسلي كلارك القائد الأعلى السابق لحلف شمال الأطلسي: “عدم اعتقال الرئيس، وعدم وقف خدمات الانترنت، عدم حجب وسائل التواصل الاجتماعي وعدم وجود قوات كافية لإرهاب المتظاهرين”، وهذا الأمر بهذا الشكل غير معتاد في العالم العربي والإسلامي، لأن هذا العالم يمثل فيه الجيش العمود الفقري للدولة؛ بل يمثل فيه الجيش المؤسسة الوحيدة القائمة، ذات البنية الواحدة، باعتباره في هذه الربوع رمز الدولة المعاصرة لكونه المؤسسة الوحيدة التي تحتكر استعمال القوة، وقد لعبت الجيوش في ذلك أدوارا كثيرة لم يبرز منها بعد حركة التحرر، إلا الانقلابات والمكائد، وأحيانا يكون فعلها على حساب المصلحة الوطنية.

ورغم أن احتكار استعمال القوة لا يعني احتكار السلطة والحرية والحق والعدالة، فإن جيوش العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث عموما، إذا استثنينا مرحلة التحرير، لم يعرف عنها غير مهمة الإنقلابات؛ بل لم تنجح في شيء مثلما نجحت في الانقلابات، ومن ثم أضحى الأصل في انقلابات العالم العربي والإسلامي أنها تنجح، لكونها تملك القوة وحرية الحركة، ومنها تركيا بالذات التي لها تجربة غنية بالانقلابات والمحاولات الانقلابية، حيث كان معدل الانقلابات فيها، انقلاب في كل عشر سنوات، ومنها بالتحديد أربعة انقلابات ناجحة: 1960/1971/1980/1997، ناهيك عن المحاولات التي أجهضت قبل بدوها.

وفي اعتقادي ان نجاح تلك الانقلابات وتغوُّل الجيش وهيمنته على الحياة السياسية عامة، أن النخب السياسية في هذا الجزء من العالم المغبون، لا يوجد من بينها من يعتقد الفوز في ممارسة السياسة بلا دعم من العسكر..، لا لشيء إلا لأنه يملك القوة المادية، رغم أن العسكر لم يكن يستطيع ولن يستطيع الحكم إلا بواجهة سياسية، أي أنه في حاجة إلى السياسي أكثر من حاجة السياسي له..، ومع ذلك لم تنتبه الطبقة السياسية إلى هذه الميزة، وهذا التنازل الطوعي في المستوى الفكري للنخبة، لا يسمح للعسكري أن يسلم ويتنازل عن أمر لم يظهر فيه منافس جاد، فالأمر من هذا الجانب، لا يلام الجيش إذا لم يترك التدخل في السياسة والنخب نفسها هي التي تؤمن بذلك وتتقرب إليه من أجل دعمها وتمكينها من الفوز بمنصب أو مناصب أو تجاوز استحقاق انتخابي.

والتجربة التركية ابتداء من مطلع الألفية الثالثة، أظن أنها قد تجاوزت هذه المعضلة، وهي معضلة تمدين الحياة السياسية، فمن ناحية عملت على تحجيم دور الجيش في الحياة السياسية شيئا فشيئا، بحيث لم يعد يعتبر أن له دور سياسي في البلاد، رغم ان الجيش في تركيا كان هو الكل في الكل لمدة تقارب القرن من الزمان، ومن ناحية أخرى عملت على تطوير الخطاب السياسي وتقوية دور النضال السياسي المدني وتفعيله، في السلطة والمعارضة على حد سواء، ولذلك لم يجد الرئيس رجب طيب أردوغان صعوبة في إقناع الشعب بالنزول إلى الشارع لمواجهة الجيش في محاولة الانقلاب الفاشلة؛ بل إن معارضيه أنفسهم لم يجدوا صعوبة في النزول إلى الشارع استجابة لندائه لمواجهة دبابات الإنقلابيين…

ففشل الإنقلاب إذن كان بسبب تطور الحياة السياسية وفاعلية النضال السياسي  السلمي، بإثبات وجود الفعل السياسي، وليس بانسحاب الجيش من تلقاء نفسه؛ لأن الجيش نفسه لو لم يجد كفاءة سياسية في الساحة، وخدمة راقية للشعب، لما تخلص من لوازمه التاريخية التي جعلت منه السلطة الأولى والأخيرة في البلاد.

إن الجيش عندما يفقد صفة الفعال لما يريد، وصفة “الإيمان به لا شريك له”، فإنه لا يسعه إلا أن يسلم المهام إلى أصحابها، وأنا لا أعتقد أن جيشا في العالم يختار من تلقاء نفسه ممارسة السياسة إلا عندما يرى العجز يحيط به من كل جانب… صحيح أن الظاهر في الحياة السياسية أن الجيوش هي التي تفرض تفرض نفسها.. والواقع ليس كذلك، وإنما ضعف النخب السياسية هو الذي جعل هذه الجيوش تَسْتَغْول على الشعوب، ثم على مر الأيام أصبح الأمر بمثابة اللازمة التي لم يستطع الناس التخلص منها، وإلا لماذا الجيوش في كل العالم المتحضر تابعة للفعل السياسي، وفي بلداننا العربية والإسلامية السياسي هو التابع للجيش وليس العكس؟

لأن النخب السياسية عندما تريد ولوج الفعل السياسي، تبرمج موجاتها على موجة الجيش.. بينما العالم المتحضر يبرمج الجيش وفق متطلبات الفعل السياسي.

ففشل الانقلاب إذا هو نتيجة طبيعية للفعل السياسي الجاد الذي يضع الجيش في مكانه للقيام بمهامه الدستورية.

أما فكرة الكيان الموازي فهي الإبن الشرعي للإستبداد، وأنا هنا لا أتكلم عن جماعة الخدمة فحسب، وإنما أتكلم عن الموضوع بصفة عامة وكقاعدة ناضمة؛ لأن فكرة الكيان الموازي متى تكون؟ تكون عندما يحجر على الناس وتصادر الحريات وتكتم الأنفاس، فإن السلوك الطبيعي هو اللجوء إلى السرية والتنظيمات الموازية للسلطات القائمة، لتحمي وجودها وتحافظ على استمرار مهامها التي وجدت من أجلها، وجماعة الخدمة نفسها لم تنشأ الآن وإنما أشئت لما كانت الهيمنة الكاملة للجيش والسيطرة للإستبداد، ولكن عيب هذه الجماعة أنها لم تطور آلياتها، وأهملت المستوى الذي توصل إليه الشعب التركي، ابتداء من مطلع الأفية الثالثة، الذي تجاوز بعض مخلفات الاستبداد الثقافية، من خوف وتردد وفقدان الثقة في الذات واعتماد القوة المادية في تحقيق مكاسبه، ومن ثم تخلص من جدوى الكيانات الموازية أصلا ومن تأثيرها في الحياة.

والكيانات الموازية ليست دائما في شكل قوة مادية كالقوة التي تمتلكها جماعة الخدمة التي تشبه الدولة في قوتها وامتداداتها وتأثيرها، وإنما يمكن أن تكون في شكل توجهات جزئية تظهر عند غياب النظرة الكلية للمجتمعات في جميع أبعادها الإجتماعية والثقافية والسياسية، ففي مجتمعاتنا المتخلفة مثلا التي لا زال الاستبداد يعشش في جميع أركانها، تبدأ فيها الكيانات الموازية من الأسرة، التي تمثل أول تنظيم مؤسس قائم في المجتمع والدولة، فالأسرة التي يسيرها العقل الاستبدادي، فإن محصلتها الطبيعية هي ميلاد كيان موازي لنظام الأسرة الطبيعي، تكون القيادة فيه للأم مثلا أو الإبن الأكبر أو ربما أحد أفراد العائلة الكبيرة.. وكذلك في التنظيمات الإجتماعية والسياسية، الأحزاب الجمعيات النقابات..، فإننا لا نكاد نقف على تنظيم يخلو من كيان مواز بداخله…، والسبب دائما هو ثقافة الاستبداد التي تتشربها القيادات مع حليب الأم، ولذلك نجد في هذه التنظيمات، الكثير من الانقسامات والانقلابات والمؤامرات والتآمرات المضادة..، ومن ثم فإن ما يقع من كيانات وعصب حاكمة في الأنظمة الاستبدادية أيضا، هو إفراز لواقع سياسي اجتماعي.. فالاستبداد والكيان الموازي يبدأ من الفرد ومن الأسرة ومن تنظيمات المجتمع المدني ليصل في النهاية إلى مؤسسات الدولة.

وعملية تغيير هذا الواقع وإمكانية التخلص منه ممكنة، ولكنها ليست منحصرة في جهة معينة، كما يتوهم الكثير منا، لأنها مرتبطة بثقافة النخب السياسية، فيمكن أن يبدأ التخلص منه من القاعدة، عبر التربية والتعليم والتثقيف، بحيث يرتقي الشعب إلى مستوى لا يفكر فيه في إيجاد تنظيم موازي للحصول على حقوقه المادية والمعنوية، كما كان الأمر في التجربة الماليزية والتجربة السنغافورية مثلا، ويمكن أن تبدأ من القمة كما في التجربة التركية، فتكون نخبة سياسية واعية تحقق للمجتمع ما يطمح إليه وما يريد بأوسع ما يمكن أن توصف به عملية التنمية .     

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • عبد الله مكي

    اعتقد ان عبقرية حزب العدالة والتنمية وعلى راسه اردوغان لا تكمن في قدرته على إفشال الإنقلاب بقدر ما هي في القدرة على نقل تركيا من بلد متخلف يرزح تحت وطاة الازمات المتلاحقة إلى بلد متطور ينافس على المراتب الاولى اوروبيا وعالميا..بداية من نقل إسطنبول التي كانت مسرحا للقلاقل السياسية والإجتماعية إلى مصاف العواصم الكبرى في العالم ..ونهاية باختراع آخر طراز من الطائرات الحربية وتدشين الاسطول الجوي الاحدث لتركيا ..كل ما حدث بعد ذلك فهو محصلة لما سبق ..ومن اراد ان يراهن على شيئ فليراهن على تطوير بلده.

  • محمد

    شكرا للاستاذ على تنويرنا بالتحليل المنطقي القريب جدا من الواقع .. و نرجو ان يحدثنا على هته الكيانات الموازية في بلادنا ان وجدت فهل تكون بابعاد سياسية نفعية ام سياسية معارضة ام سياسية تجارية ام مافيوية محظة .. حتى نستشرف المستقبل .. و لم لا افتراض ما يمكن حصوله و ايجاد الحلول .. بين كلمتي لو و كيف ..