-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“البادي” في “المدينة الملعونة”.. الخليجي حين يرحل بعيدا

“البادي” في “المدينة الملعونة”.. الخليجي حين يرحل بعيدا

كيف للخليجي، والإماراتي تحديدا، أن يرحل بعيدا خارج فضائه الجغرافي ومجاله الثقافي ومساره المجتمعي؟.. هذا السؤال ظل يراودني منذ أن وطئت قدماي أرض الإمارات، كما أرّقني خلال جولاتي في الدول الخليجية الأخرى، وقد حاولت تقديم إجابة له في عدد من المقالات، خصوصا تلك التي نشرتها تحت عنوان” الخليج يسأل وُيسأل”.

على العموم، فإن خلفية السؤال ترتكز على متابعتي للفعل الخليجي على جميع المستويات، دون الاتكاء على خلفيات أخذت شرعية وجودها والترويج لها من أحكام مسبّقة، يحسبها الجاهل صوابا حتى إذا ما اقترب من الواقع الخليجي وجدها سرابا معرفيا، ولم يجد أصوله ولا ميراثه العربي عندها.

كما تستند خلفية السؤال السّابق على نوع من المشاركة مع بعض رفاق الدّرب من الإمارات في هموم محلية وإقليمية وعربية وأحيانا عالمية، النموذج الماثل أمامي والأقرب إلي خلال عقد من الزمن هو الكاتب الصحفي ” سعيد البادي” الذي سأتحدث عنه لاحقا، وهو ليس قريبا مني لمواقفه الإيمانية والإنسانية من هزات اجتماعية واجهتها ولا أزال فحسب، وإنما لكونه متفاعل بوعي كامل مع همومنا على مستوى منطقة الخليج العربي وقضايا المسلمين عموما.. إنه في تجربته الثرية، وفهمه للواقع الخليجي، صاحب دور بارز في أعمال صحفية قمنا بها معا في كل من: الكويت وعمان، وبناء عليها استعنت برجاحة عقله ورشده لفهم ما يدور في الإمارات ودول مجلس التعاون الأخرى  

 من جانب آخر، فإن السؤال السابق يؤسس لعودة ثقافة الاعتراف العربي ـ العربي، من خلال مسألتين، الأولى: ملاحظتي لمجوعات خليجية ـ أمة من النّاس ـ أغرقها المال في حركة الحل والترحال، باستثناء قلة منها، فانشغلت بالبحث عن الرفاهية والراحة، وهذا أمر طبيعي في حياة البشر.. لقد نبتت في أرض أخرجت أثقالها بفضل دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام، لتجعل من كل ثمرات العالم رزقا لها، وفي حاجة لراحة منها في أراضي الغير حين يأتي الصيف بلغوه، وهذا حق لا ينكره إلا جاحد، وبالتالي لم يكن أولوية الغالبية منها الاهتمام بإنجازات الآخرين على المستوى المعرفي، فإن خرج أحدهم، كما سنرى لاحقا، على هذه القاعدة، فقد يحقق إنجازا له وللخليجيين وللعرب جميعا.

المسألة الثانية: أن تجارب الخليجين من الناحية الإبداعية لا تحظى، بعيدا عن حسابات محددة، بالاهتمام الإعلامي، وإن كان بعضها قد نال قسطا وفيرا من الدراسة الأكاديمية، ويعود ذلك إلى كونها غارقة في محلّيتها، الأمر الذي أزعج بعض العرب، خصوصا، أولئك الذين يعتبرون بلدانهم حواضر ثقافية، ولا تقبل التخلي عن هذا الدور، حتى لو تراجعت على المستويين الثقافي والسياسي، ونتيجة لهذا فقد أحجم بعض المثقفين الخليجيين عن العطاء.

ما سبق ذكره يعدّ مقدمة لا بد منها، لكوننا اليوم أمام تجربة واقعية، كما يذكر صاحبها، وهي رواية “المدينة الملعونة” للصحفي والكاتب الإماراتي “سعيد البادي”، التي جمعت بين الخيال والواقع، وبين التاريخ والجغرافيا وبين الأثربولوجيا وقضايا المجتمعات البدائية، لجهة الكشف والتحقق من الوقائع والأحداث، والتمييز بين ثقافة الشعوب وبين أساطيرها، وصولا إلى الثّابت والمتغيّر في حياة أولئك الذين لم تدركهم بهجة المدنية وزخرفها، وظلّوا في صلة مباشرة مع الطبيعة، فسلّموا أمرهم إلى قوى خفيّة قارتاحوا ولكنهم لم يريحوا، خصوصا حين حلّ بينهم “البادي” وفريق من الباحثين الأمريكيين.

رواية “المدينة المعلونة” مع أنها قائمة في أذهان الباحثين وروّاد الاستكشاف، إلا أنّ بلوغ النهاية القصوى عند الوصول إليها، يهدم كل البناء المعرفي لأجيال من الأمم، فإذا أضفنا إليها المسعى البشري المتواصل لإيجاد حماية حقيقية من قوى الشر التي اختصرها سكان تلك المناطق في قوى غربية قدموا لها قرابين من الغرباء، وكاد كاتبنا أن يكون منهم، لولا أنه لكل أجل كتاب، ولولا صدقه الذي نجاّه حين رفض الزواج من ابنة شيخ القبيلة وتركها لحبيبها، مع أنه كاد أن يزلّ حين بلغت الجاذبية ذروتها في لحظة حميمية، أبدعت مشهدا رائعا بيّن لنا معنى وأهمية الجمال الفطري بعيدا عن مواد الزينة في مدنيتنا.

لقد سافرت مع سعيد البادي، لكنه في هذا النص الأدبي أخذني بعيدا، فعادت بي الذكريات إلى ليللة باردة قضيناها في “الجبل الأخضر” في سلطنة عمان، حين فضل أن نتحرك في فضاء المكان على بعد كيلومرات مشيا على أن نستسلم إلى النوم بعد يوم شاق.. إنه في هذه الرواية يعيد تشكيل حركة الحياة فيجعلنا نحنّ إلى معرفة الآخر بالرغم من المخاطر.

ولحيوية نصّه، وحيث تدفّق المعرفة، وصراع الأمم والحضارات والثقافات، خلته يحركنا نحو ما يود الوصول إليه، لكنه في الحقيقة يحرك الشوق داخلنا إلى المعرفة، وهو بقصد، أو دونه، يقول إلى كل من يود معرفة الإنسان العربي في الخليج: “إنه يرحل بعيدا حاملا لميراث فاتحين جابوا العالم كلّه.. عودة لدور ما كان وما ينبغي لنا تجاهله.

عمل سعيد البادي مثّل بالنسبة لي عند قراءته مرات متفرقة، انتصارا للعمق الإنساني الخليجي الذي عرفت من قبل، وكشفا لكاتب يشكّل عالمنا بصبر وجهد، ليجعل السفر إلى الغابات الاستوائية مثل سفره إلى العراق حين تكالبت عليه الأمم تغييرا لمسار المعرفة.. وتلك رحلة نأمل أن نراها قريبا في أعمال قادمة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!