-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التاريخ بين القراءة البطولية والقراءة التاريخية

التهامي مجوري
  • 536
  • 0
التاريخ بين القراءة البطولية والقراءة التاريخية

للتاريخ قراءتان تضاف للقراءات المختلفة التي اعتاد عليها الناس، وقد ذكرنا بعضها في مقال سابق نشر في موقع الشروق أونلاين بعنوان “كيف نقرأ التاريخ؟”.

وهاتان القراءتان هما: القراءة البطولية والقراءة التاريخية.

أما القراءة البطولية فتركز على تمجيد البطولات والتضحيات وصور الإقدام المتنوعة وإحصائها، بقطع النظر عن المكاسب التي حققتها هذه البطولات، والإخفاقات التي طالتها؛ لأن هذه القراءة في جوهرها تعبِّر عن إشباع لرغبات غريزية يمر بها الإنسان، منها الدفاع عن الذات والأنفة، ومنها الواجب الديني، ومنها الانفعال [مالك بن نبي، شروط النهضة]، وكذلك رد الفعل الطبيعي، إذ لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه كما يقال في علم الفيزياء.

وعندما غزا الاستعمار الجزائر سنة 1830، لم يكن رد فعل الشعب الجزائري على ذلك بحركات المقاومة الكثيرة، من الأمير عبد القادر إلى مقاومة الزعاطشة، إلا رد فعل بطولي قَلَّ نظيره؛ لأنه كان استجابة طبيعية على استعمار غزا البلاد، بمبررات شرعية ومنطقية، انطلاقا من واجب رد الاعتداء وشرعية الجهاد في سبيل الله، ووجوبه عندما تُغزى البلاد من قبل الأعداء.

وفي المقابل عندنا اليابان عندما فُرض عليها توقيع معاهدة الاستسلام، لم تقاوم وتواجه بالعنف، وإنما رد الفعل الذي اعتمدته هو التسليم بالأمر الواقع، والاتجاه إلى بناء الذات بإعادة صياغة المجتمع الياباني عبر التربية والتعليم، فلم يكن الدور بطوليا كما كان واقع المقاومة الجزائرية، ولكنه كان موقفا تاريخيا، إذ تحوَّل اليابان من بلد مستسلم خاضع خانع، إلى مجتمع يغزو العالم بمنتجاته النوعية المتميزة؛ بل طُلب منه أن يتسلح لكونه كان ممنوعا من التسلح وصناعة السلاح، ولكنه رفض بموجب معاهدة الاستسلام.

على أن حركة المقاومة في التجربة الجزائرية لم تهتم بدراسة الواقع وفق منطق حركة التاريخ؛ لأن الأمة يومها رغم أنها مظلومة، إلا أنها كانت –بمنطق التاريخ- قد فقدت أهليتها التي تمكِّنها من قيادة نفسها، فأضحت معرَّضة للاستعباد أكثر منها مؤهلة للقيادة، وقد عبَّر عن هذه المعاني الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، بمصطلح “القابلية للاستعمار”، ثم طور هذا المصطلح الأستاذ مولود قاسم، بإطلاقه لفظ “المسكونية”، أي الأمة المصابة بالسكون، ثم أعطى لهذا النوع من السلبية الدكتور عمار الطالبي مصطلح “المركوبية”، أي أن الأمة تصبح مركوبة بسبب تخلفها وهوانها.

والجامع بين هذه المصطلحات الثلاثة هو الضعف والغثائية المشبَّعة بسبب غلبة مَواطن الضعف عليها، التي لا تسمح لها بالشعور بما فيها من إيجابيات ونقاط قوّة، وتنشغل عن ذلك بالتغنِّي بالماضي الذي كان، وفي أحسن الأحوال تنفعل مع الواقع كيفما اتفق، ولكن هل تُحقق مكاسب أم لا؟ فذلك ليس من مهام الأمة الخاضعة لمقررات الجهل والقابلية للاستعمار والمسكونية والمركوبية!

ورغم مشروعية الجهاد الذي قامت به الجزائر خلال 86 سنة (1830/1916)، فإن تلك المقاومات لم تنطلق من منطق التاريخ، وإنما كانت استجابة لضرورات عاجلة واستفزازات آنية… وما يقال هنا يقال أيضا في تجربة النهضة التي مر عليها أكثر من قرنين من الزمان، ومع ذلك لم تحقِّق ما تهدف إليه، ومن ثم فإن التضحيات التي قامت بها، من قوائم الشهداء ومقاومات الفساد في العالم الإسلامي، والمشاريع التي قُدِّمت والتجارب التي مرت بها الأمة كلها كانت استجابات لاستفزازات من الخصوم والأعداء، أكثر منها أنشطة نابعة من منطق التاريخ، والتفاعل الإيجابي مع ما يقتضيه الحال في مثل هذه الأمور، ومن ذلك المبالغة في الأنشطة المنفصلة عن نتائجها، حتى أنّ البعض كان ولا يزال يقول: “نحن مطالَبون بالأعمال ولسنا مطالبين بالنتائج”، وهذا في منطق التاريخ مرفوض؛ لأنه يعبِّر عن عبث، لا تقبله العقول السليمة؛ لأن الشعور بالمسؤولية في الحياة يقتضي سلوك الفعل المنتِج، وليس الفعل غير المنتج.

هذا بالنسبة للوقائع كوقائع، أما قراءتها بعد وقوعها عندما تصبح تاريخا، فإن القراءة أيضا تتأثر بهذا المنحى، إذ تنظر إلى هذه البطولات وكأنها هي التي ينبغي أن تكون، ولا يهم أن تحقق المطلوب أو لا تحققه، رغم أن ذلك ليس إلا مجرد رد فعل آني كان لا بدّ منه للتعبير عن الحياة فحسب، أما ما ينبغي أن يكون فأمرٌ آخر، إذ عندما تكون في موقع المغلوب والضعيف، لا يُحسن المواجهة المباشرة؛ لأن المعركة غير المتكافئة لا تؤدي إلا للهزيمة.

وهذا النَّفَس بقي ردحا من الزمن هو الذي نفسر به المقاومة الجزائرية خلال ست وثمانين سنة، فقلنا إن المقاومة لم تكن وطنية –أي محدودة المواقع جغرافيا- ولذلك هُزمت، ونسينا أن إمكانات المجتمع العلمية الثقافية لا تسمح له بأن يتحرَّك وطنيا، إضافة إلى كون المعركة لم تكن متكافئة.

صحيحٌ أن البطولات مهمة في المجتمعات الناهضة والآفلة على سواء حد، ولكنها ليست كل شيء، إذ يمكن لهذه البطولات والتضحيات أن تُخفي الكثير من العيوب التي تقع فيها المجتمعات وهي تمارس البطولات بزهو لا نظير له.

أما الدور التاريخي الذي قد لا يعبّر عن البطولة بقدر ما ينطلق من المبررات الموضوعية للحدث ويتخذ الموقف المناسب، ولكنه يعبّر عن عبقرية وحكمة ولا ينبغي فهمه على أنه مضاد للبطولة، وإنما ينظر إليه على أنه يهتم بالبطولة المثمرة، أي لا يقف عند البطولة المضحية، وإنما يتجاوزها إلى البطولة المنتجة، التي توازن بين التضحيات والنتائج؛ لأن التضحيات بلا منتَج وثمار ملموسة عبث، والعبث يرفضه التاريخ، كما أن الثمار بلا تضحيات أحلامٌ غير موضوعية.

إنّ توقيع دولة اليابان المشار إليه آنفا على معاهدة الاستسلام عقب الحرب العالمية الثانية، بعدما دمِّرت بسبب ذلك الهجوم النووي عليها، لم يكن في منطق التاريخ خُنوعا لليابان أو رضوخا للقوة التي هيمنت على العالم يومها، وإنما هو تفهُّم واعتراف بواقع العالم الجديد الذي يتحكم فيه الكبار، فاختارت اليابان الاستسلام والتجرُّد من السلاح، والاقتصاد في الأموال والأرواح، فكانت فكرة التوجُّه إلى بناء الذات عبر تطوير منظومة تربوية تحقق للياباني ما يريد، فلم يمرّ على هذا الاستسلام ثلاثة عقود حتى أصبح الاقتصاد الياباني يهدد الاقتصاد الأمريكي نفسه، إذ دُعي اليابان إلى صناعة السلاح، فلم يستجب، على اعتبار أنه ملزَم بمعاهدة الاستسلام.

عبَّر عن هذه المعاني الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، بمصطلح “القابلية للاستعمار”، ثم طور هذا المصطلح الأستاذ مولود قاسم، بإطلاقه لفظ “المسكونية”، أي الأمة المصابة بالسكون، ثم أعطى لهذا النوع من السلبية الدكتور عمار الطالبي مصطلح “المركوبية”، أي أن الأمة تصبح مركوبة بسبب تخلفها وهوانها.

إن ما فعله اليابان في عرفنا نحن المسلمين، جبنٌ وخَوَر وتدني… كيف يسمح إنسان لنفسه بالاستسلام لغيره من البشر؟ وعلى ذلك يعيب بعض الجزائريين على الأمير عبد القادر وضع السلاح والقبول بالهزيمة أمام القوى الاستعمارية، وينسون منطق التاريخ الذي فرض في ذلك الوقت انتقال القيادة من اليد الإسلامية إلى يد العالم الجديد الذي بدأ في التشكُّل مع سقوط غرناطة. فعمل الأمير عبد القادر اعترافٌ بالواقع الجديد الذي لا قِبل له بمواجهته، ومن ثم سلَّم المشعل للأجيال القادمة، ولو استمر في المقاومة لقُضي على الشعب الجزائري كله كالهنود الحُمر في قارّة أمريكا؛ لأن موازين القوى غير متكافئة، وهو ما فعله اليابان بالضبط بعد ذلك، حتى يحافظ على بقائه واستمراره، وها هو يغزو العالم بمنتجاته، وبقيمه الثقافية، بعد أقل من ثلاثين سنة من استسلامه، إذ لا أحد تسوِّل له نفسه الاقترابَ من اليايان… هذا هو الفعل التاريخي الذي يتفاعل مع الطبيعة ولا ينفعل بأحداثها، ولا يغترُّ بما يملك من صدقية تاريخية ومشروعية قانونية؛ لأن قانون التاريخ مبناه على الصدقية والمشروعية والقوة القادرة على الحماية والحضور.

صحيحٌ أن البطولات لها آثارها الإيجابية في حركة التاريخ، ولكن هذه البطولات إذا لم تكن في إطار حركة التاريخ، فإنها تعدُّ بمثابة الانتحار والإسراف في التضحية بالأرواح والممتلكات، بسبب الفعل غير المنتِج، وكأني باختيار العنف في مقاومة الأنظمة المستبدّة من غير عدة قادرة على تغيير ميزان القوة، يفكر في الانتقام من المستبدين أكثر من تفكيره في العيش وروح التسامي والتسامح، وهذا يفرض من الأنانية التي يمتلكها الحاكم المستبد على خصومه أكثر من تلمسهم للعدل والإنصاف، فكلاهما يستجيب لرغبة غرائزية، مع فارق واضح بين البطل المقاوم والحاكم المستبدّ.

ومن ثم، فإن القراءة التاريخية للأحداث، لا تختلف كثيرا في تفسيرها بعد حدوثها، فما يُقرأ قراءة بطولية لا يتجاوز التغنِّي بالتضحيات والأثمان الباهظة التي دُفعت في سبيل الفعل البطولي، فلا يدرك حقائقَ الوجود ومتطلبات الفعل التاريخي التي يمليها قانون الله على الخلق؛ فالبطولات التي حققها الصحابة في مواجهاتهم الكبيرة لحركة المشركين، لم تمنع الوحي من مواجهة حقيقة الخطأ في غزوة أحُد الذي وقعوا فيه فكان سببا في هزيمتهم حتى أن القرآن الكريم عقَّب على ذلك الخطإ بقوله (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)، حتى أن عبد الله بن مسعود قال: ما كنا نعلم أنّ فينا من يحبّ الدنيا!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!