الرأي

التاريخ في المزبلة؟!!

التهامي مجوري
  • 3974
  • 0

عندما قرأت خبر إلغاء مواد التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية، من امتحان الباكلوريا في الفروع العلمية، تذكرت أمران أعدُّهما الآن من المعلومات التاريخية التي احتفظت بها ذاكرتي، من امتدادات صراعنا مع الغرب عموما وفرنسا اللائكية خصوصا، في بلادنا بعد الاستقلال.

الأمر الأول: مظاهرات شباب الثانويات، في ثمانينيات القرن الماضي، الذين طالبوا في تظاهراتهم تلك، بإلغاء مادة التاريخ من امتحان الباكلوريا، رافعين شعار “التاريخ في المزبلة”.

والأمر الثاني: عندما صدر مشروع بن زاغو، المتعلق بالمنظومة التربوية، علمت ان الدكتور عبد القادر فضيل، مفتش مركزي سابق بوزارة التربية، قرأ المشروع بطلب من زميل له –كان وزيرا في الحكومة يومها-، فسألته: ما رأيك في هذا المشروع؟ فقال لي: “إن هذا المشروع، يجرد الجزائري من كل خصوصياته التاريخية والثقافية والدينية، ومن كل انتماء يمكن ان يميز مواطن عن مواطن آخر، بحيث يمكنك أن تصف الجزائري، الذي تصوغه منظومة بن زاغو بكل شيء، إلا أن تقول عنه إنه جزائري”.

وعندما أضع هذين الأمرين في سياقهما التاريخي قبل الاستقلال وبعده، لا أراهما يخرجان عن مسار استعماري –بكل أسف-، يجرد الجزائري من كل خصوصياته الوطنية بجميع أبعادها الثقافية والدينية..، ويبني نَفَسًا عدائيا، يحمله الجزائريون لبعضهم البعض، باسم العداوة بين الأصالة والمعاصرة، والتنافر بين العرب والأمازيغ، أو التنابز بين الحضر والبدو، أو تصارع الأجيال فيما بينها…إلخ.

فعندما احتلت فرنسا الجزائر، كان جوهر ما تهدف إليه، هو الوجود الاستيطاني الصرف، الذي يهدف إلى محو الشخصية الوطنية الجزائرية، فألحقت الجزائر بفرنسا “الجزائر الفرنسية”، وقررت منع العربية واعتبرتها لغة أجنبية، وشرعت في حملات التنصير المركَّزَة، مع تقسيم المجتمع، إلى عرب وبربر، ومسلمين ويهود ونصارى، والمسلمين منه، مالكية وحنفية وإباضيين…، مع بعث معلومات تاريخية مشوهة ومغلوطة عن المنطقة وأهلها، وهكذا ليتسنَّ لفرنسا تبرير جرائمها، بما جاءت به من مدنية وتحضر، تعين به هؤلاء الهمج على أنفسهم..، وإحكام القبضة الحديدية وتبرير مكائدها بعد ذلك، ومع ذلك لم تفقد الجزائر من الخصوصيات الوطنية الجزائرية خلال الفترة الاستعمارية، ما فقدته بعد الاستقلال، ولم تهتز ثقافة المجتمع وهويته، كما اهتزتا بعد الاستقلال..، وإلا كيف يبلغ بالشاب الذي من المفترض أنه المرشح لقيادة بلاده، مبلغا يطالب فيه بأن يكون مكان التاريخ المزبلة؟

لا شك ان لذلك أسباب موضوعية ونتائج طبيعية لانحرافات بالجملة، تجعل من الشاب يكفر بكل ما هو جزائري..، وأظهرها ذلك النداء المخزي، الذي يتمنى لو أن فرنسا لم تخرج!!، والسبب في ذلك أن الخطاب السياسي الذي ليس هنا مجال الكلام عنه، لم يكن بمستوى الثورة التي أثمرت استعادة السيادة الوطنية، ومستوى المنظومة التربوية، الذي لم يرتق إلى طموحات الشعب الجزائري، الخارج لتوه من فترة استعمارية دامت قرنا وثلث، كادت تقضي على إنسانيته، وليس على مستوى تعليمه فحسب.

هذه المنظومة التربوية التي مرت بمراحل سماها الدكتور عبد القادر فضيل بـ”المدرسة في الجزائر”، لأن منظومتنا التعليمية والتربوية، لم تستطع أن تصنع لنا مدرسة جزائرية، وإنما صنعت لنا مدرسة في الجزائر، بسبب الإرث الاستعماري الثقيل، الخزبية الضيقة التي سار عليها رجال السلطة في تسيير شؤون البلاد بعد الاستقلال، ولعل أفضل مرحلة لهذه المدرسة في محاولاتها الوطنية الجادة كانت في 1976/1988، التي حددت على الأقل غاية واضحة، وهي التركيز على مجانية التعليم، وكم المتخرجين في كل عام، وهذا خيار محترم على ما فيه من نقائص؛ لكونه تبنى خيارا من بين خيارين معروفين في العالم، وهما: الكم أن النوع؟

اما باقي المراحل فموزعة بين مرحلة 1962/1976، التي طغى عليها الإرث الاستعماري، ومحاولة التخلص منه، ومرحلة 1988/2015، التي اعقبت مرحلة الحزب الواحد، والانتقال إلى التعددية التي افتتحت بكسر وتحطيم كل موروث عن المراحل الوطنية السابقة، وكأننا امام استئناف لكل شيء ببدايات صفرية تعدم كل موروث عن مرحلة سابقة، بحيث كان الصراع على أشده في جميع المجالات، ومن بين المجالات الساخنة في هذه المرحلة هي المنظومة التربوية، حول لغة التعليم وعلمنته، والنظم التربوية التي تبنتها الحركة الوطنية، وتحزيب التربية وتسييسها، وشخصنة التربية، فيتولاها فلان وليس علان…إلخ، إلى أن وصلت المسألة إلى حد الفصل فيها، والإعلان رسميا بأن المدرسة الجزائرية منكوبة في سنة 1992، وما دامت المدرسة منكوبة فها هي “المرحلة ذهبية” قد اطلت، في جو من الفراغ السياسي وأزمة حادة، لا بد من الشروع في التخلص من أمرية 1976، وهي الوثيقة الأساسية في المنظومة التربوية، والإنطلاق في إنقاذ المدرسة الجزائرية المنكوبة، بالتشريعات واللقاءات واللجان والملتقيات، التي زرعت وأنبتت في عهد “الوزير طويل العمر” أبو بكر بن بوزيد، فانتجت لنا مشروع بن زاغو الذي يهدف إلى بناء مواطن جزائري، يصلح أن يكون كل شيء: فرنسيا أو امريكيا أو تونسيا أو مغربيا، إلا أن يكون جزائريا..، لا خصوصية وطنية له، بل لا خصوصية لهويته أصلا…، وكل ذلك مستنده “اللائكية الفرنسية”، التي تهدف إلى إعدام كل خصوصية ثقافية ودينية، قياسا عليها وعلى لغتها الهجين، والعولمة الأمريكية، التي تريد للعالم ان يكون سوقا لمنتجاتها ومنتجات الغرب عموما في جميع المجالات، بحيث يكون الأمريكي والغربي عموما هو المنتج وغيره من الشعوب مستهلكين، لا دور لهم في صناعة العالم ومستقبله.

ولذا في اعتقادي أن ما أعلن عنه الآن من إجراءات ظاهرها التخفيف على أبنائنا، هو خط في مسار طويل فكري دولي واحد، يشرف عليه الاستعمار القديم والجديد، باسم الميثاق الاستعماري أو العولمة، وتقاسم مواقع النفوذ، فالأمر سيان؛ لأنه يدخل في إطار الصراع الدولي بجميع أبعاده الحضارية، ثقافية ودينية وسياسية واقتصادية، لم يتغير فيه شيء مبدئي مما تهدف إليه مبادئ الاستعمار القديم، وإنما الذي تغير هو الواقع السياسي والإجتماعي، ومواقع النفوذ لأصحاب هذا المشروع في بلادنا، والفرص المتاحة لهم، والتي لم تكن قبل سنة 1992، إلا محاولات توجت بما أحدث بعد ذلك.

إن القائمين على شؤون منظومتنا التعليمية والتربوية، يدَّعون ان ما يقومون به هو الملائم  للمرحلة التاريخية، التي تمر بها البشرية، من علمانية وعولمة وحداثة…، وأنهم لا يقصدون بفعلهم هذا، تجريد الجزائر من خصوصياتها؛ لأن ما قاموا به لا يشمل جميع التلاميذ، وإنما هو خاص بالشعب العلمية؛ باعتبارهم غير معنيين بمواد العلوم الإنسانية، وكأن المتعلم في الشعب العلمية لا يحتاج في بناء شخصيته إلا للمواد العلمية التي يرغب فيها، فلا يحتاج إلى وطنية ولا إلى انتماء قومي أو ديني، وإنما ذلك ضروري لمن يدرس العلوم الإنسانية فحسب، اما تلاميذ الشعب العلمية فقد وصلوا إلى الحقيقة الكاملة التي لا تحتاج إلى دين ولا إلى تاريخ ولا إلى جغرافيا. 

إن هذا الذي تقوم به وزارة التربية اليوم، لم تستطع فرنسا الوصول إليه خلال 132 سنة من العمل التخريبي الممنهج للشخصية الوطنية الجزائرية، بحيث عجزت عن إقناع المجتمع الجزائري بأن الجزائر هي فرنسا، تاريخا وجغرافية ودينا…، فبقي الراسخ في الذاكرة الجزائرية بفضل التاريخ، أن الوجود الفرنسي احتلال، حيث احتلت فرنسا الدولة الجزائرية في سنة 1830، وقبل ذلك كانت الدولة الجزائرية قائمة، سواء في إطار الخلافة الإسلامية، أو باستقلالها ولاية إسلامية، تربطها بباقي العالم الإسلامي، أواصر الأخوة الإيمانية والعمق الثقافي الحضاري، تبعدها عن الغرب الفروق الجوهرية الثقافية والدينية والتاريخية الجغرافية.

وبعد استعادة السيادة الوطنية، فالجزائر دولة مستقلة متميزة بخصائص وطنية، ثقافية ودينية، وجغرافيا لها حدودها الإقليمية المغاربية والوطنية، ويفصلها عن فرنسا البحر الأبيض المتوسط الذي أرادته فرنسا بحرا واصلا، بينما الشعب الجزائري أراده بحرا فاصلا لا بحرا واصلا، وكما قال علامة الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله “الجزائر ليست فرنسا، لا تريد ان تكون فرنسا ولن تكون فرنسا ولو أرادت”. 

إن مواد التاريخ والجغرافيا والدين في المنظومة التعليمية والتربوية لكل مجتمع؛ هي المخزون الأصيل الذي يبني المجتمع بناء جيدا كاملا، يعيد للمجتمع الفاقد لقيمه، قيمته الحقيقية، ويعيد له مكانته اللائقة به في خارطة العالم، ويمكنه من خصوصياته، وبذلك تنتهي كل الدعايات والأكاذيب حول مرحلة أو مراحل معينة من التاريخ، وحول شخصيات معينة وحول أحداث معينة، لا يزال المرجفون يسوقون بها امورا من ماضي الجزائر لها علاقة بالمستقبل..، ينتهي كل ذلك بدراسة التاريخ والجغرافيا والدين..، فيقرر التاريخ من الذي نهض بالجزائر وصنع منها دولة ومجتمعا حقيقيا وتميزا كاملا..، قبل الاستعمار الفرنسي ومن حافظ على بقائها أثناء الاستعمار، ومن أعاد لها خصوصيتها بعده، وسيحكي التاريخ عن ثورة وعن فضائل الجزائر ومساهمتها في العالم.. وسيحكي عن الاستعمار وبشاعته وجرائمه، وسيكتشف الجزائريون أن التاريخ يغربل الأحداث، ولا يبقى منها إلا الصحيح الثابت (أما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، وما كانوا يسمعون عنه من أحداث مشوهة، وعن مجاهدين كانوا خونة أو العكس، حركى تحولوا إلى مجاهدين.

والذي يعطل التاريخ عن أداء مهمته، سيحرم المجتمع من كل تلك الفضائل، التي تحسب للجزائر ولشعبها المؤمن، وللقيم التي تبناها، فعصمته من كل رذيلة ساقطة، ومن يعطل التاريخ، يعمل من باب أولى على تجريد المجتمع من دينه أيضا؛ لأنه العامل الأول الداعي للتميز والحفاظ على التاريخ والجغرافيا، كعاملين مساعدين على تثبيت هوية الفرد والمجتمع.

مقالات ذات صلة