الرأي

التحول قادم.. نريده سلميا فقط

محمد سليم قلالة
  • 2949
  • 8

تابعت بإمعان شهادة الوالي السابق السيد بشير فريك بشأن الانتخابات التي عرفتها الجزائر في فترته، وأظن أنه يستحق الشكر ليس فقط على هذه الشهادة إنما على صراحته التي تكاد تكون تامة وعلى ذلك الكم الكبير من الإيحاءات التي أوحى لنا بها من خلال هذه الشهادة عن التحول القادم في السلطة. لقد كان يتكلم من الداخل وكنا قد عشنا ما كان يتكلم عنه من الخارج كضحايا أو فاعلين من حيث ندري أو لا ندري، بإرادتنا أو بغير إرادتنا، وأصبح من شأننا اليوم أن نستخلص العبرة جميعا مما عشناه كل من موقعه، وكل من خلال ما عرف من تجربة، لكي نصنع مستقبلا أفضل لنا ولأبنائنا.

كان السيد بشير فريك يسرد الأحداث من الداخل، وكنت أستعيد شريط الذكريات من الخارج، بدءا من سنة 1991 إلى التاريخ الذي توقف عنده الحديث تقريبا أول أمس أي سنة 1999. تحدث عن انتخابات سنة 1991 وتحدث عن وقف المسار الانتخابي وفتح معتقلات الصحراء وانتخاب الرئيس زروال ثم الرئيس بوتفليقة…  كل ذلك كان من الداخل، وقارنت حديثه بما عشته من الخارج، من انتخابات 1991 إلى الزج إداريا بآلاف الشباب في معتقلات الصحراء، إلى وقوف منظمات المجتمع المدني مع الدولة بدءا بأبناء الشهداء ومشاركتهم في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي إلى انتخاب الرئيس زروال والإطاحة بالشيخ نحناح إلى الإتيان ببوتفليقة إلى الحكم… كانت الصورة لديّ غير مكتملة في كل مرة، ولم تكن الأدلة كافية لكي أعيد ترتيب عناصرها كما أريد، كانت هناك بعض الظلال تبقى دوما من دون ضوء أمامي، فلا أرى الأمور على حقيقتها… إلى أن جاءت شهادة السيد بشير فريك وأكملت الحلقة المفقودة (تطابق تام مع عنوان الحصة) التي كنت أبحث عنها، أي تقديم  الاعتراف (وهو سيد الأدلة) الذي كان ينقصني لكي تكتمل كل المشاهد السابقة أمامي.

أعترف الآن أنني لم أكن لاعبا يعرف كل ما يجري حوله، كانت فقط هي الأحاسيس والمشاعر التي تحركني، وأحيانا الخوف من المجهول والرهبة من أن تتحول حياتي وحياة بلادي  إلى جحيم هي التي تحكم تصرفاتي وتصرفات أمثالي من شباب تلك الحقبة.

ولعلنا لذلك لم نحسن التصرف في كل الحالات، وكنا كمن يتحرك خبط عشواء مرة يصب ومرات يخطئ، واستمر حالنا إلى ما بعد 1999 لا ندري الوجهة التي نريد. لقد تم تحطيم البوصلة التي كنا نتعرف بها على اتجاه الطريق، وتم تشكيكنا في كل شيء حتى في أننا كنا ذات مرة على حق. ولعلها كانت تلك هي المصيبة الكبرى التي لم يفلت من تأثيرها إلا القليل. جميعنا قذفت به المجموعة أو المجموعات التي كانت تحكم يُمنة ويُسرة وفي كل الاتجاهات حتى فقد كل القدرة في استعادة توازنه وتاه عن معرفة  مسار بقية الطريق.

منذ أن توفي الراحل هواري بومدين الذي كانت لديه رؤية لمستقبل الجزائر، (اتفقنا معها أمن لم نتفق)، لم يأت فريق بعده بالبديل. كانت كل حركتنا هي ردود أفعال لما يقوم به الآخرون أو يريدوننا أن نقوم به، بدء بالخيار الديمقراطي، إلى التعددية السياسية إلى وقف المسار الانتخابي إلى انتخاب الرئيس زروال إلى الإتيان بالرئيس بوتفليقة إلى اليوم.

منذ ذلك التحول الذي بدأ في بداية الثمانينيات، لم نكن “نحن”،  هم من يوجهوا أنفسهم، بل كنا “نحن” الذين توجههم التطورات والظروف والمحيط وربما الآخرون في مستوى معين… فقدنا زمام المبادرة بخصوص مستقبل بلدنا، وانعكس ذلك على تصرفاتنا جميعا، انعكس على تصرفات الوالي وهو واليا وعلى المناضل وهو مناضلا وعلى رئيس الحزب وهو رئيس حزب وعلى المثقف وهو مثقفا وعلى المواطن وهو مواطنا. لأننا كنا جميعا نتحرك من غير توازن طبيعي داخلي يحكمنا،  من غير وضوح رؤية، كنا جميعا نتحرك خارج نطاق وعينا وإرادتنا المستقلة نصيب ونخطئ. نسير على الطريق السليم حينا ونتيه عبر طرق جانبية وفروع عدة أحيانا كثيرة. وهو ما يفسر اضطراب وضبابية المشهد لدى أغلبيتنا.. كنا في كل مرة نصادف حقيقة جديدة نتوهم أنها هي الحل وهي البديل ثم نكتشف أنها لم تكن كذلك….

ولا شك أن ما عرفناه طيلة العشرين سنة الماضية لم يكن إلا تحنيطا للموقف وتكرارا  لذات السيناريو السابق بألوان وأقنعة جديدة، حتى وصلنا إلى المرحلة التي نعيشها اليوم وعُدنا من جديد إلى مفترق طرقٍ من عدة شعب، إحداها فقط هو الطريق الصحيح، ونحن لا نعرفه.

بكل تأكيد ليست لدينا كل المعطيات الكافية التي تمكننا من الاختيار الصحيح وتجنبنا الاختيار الخاطئ، ولكننا هذه المرة نملك الوسيلة التي تمكننا من المقارنة بين مختلف المسارات: الإعلام المتنوع. التصريحات المتنوعة، الإنترنت والفيسبوك الهاتف المحمول واللوح الرقمي والحاسوب…

هذه الوسائل الناقلة للمعلومة هي التي عرّفتنا بشهادة بشير فريك، وهي التي نقلت لنا أقوال المترشحين الستة، وهي التي مكنتنا من متابعة تناقضات البعض وزلات لسان البعض الآخر وبينت كل على حقيقته وجعلتنا نضحك أحيانا على من اعتقدنا أنهم سياسيون محنكون عندما كنا لا نرى سوى صورهم الجامدة في الجرائد والمجلات… نموذج ذلك رئيس أحد الأحزاب يكشفه اليوتوب يقول ذات العبارة بنفس الكلمات ضد بوتفليقة اليوم أنه في خدمة المغرب وفرنسا، ولا يتردد أن يذهب بها ليعلن الولاء لعلي بن فليس، ثم ينشق عن هذا الأخير ويتهمه بنفس ما كان يتهم به بوتفليقة أنه في خدمة المغرب وفرنسا….

هذا هو الجديد هذه المرة الذي بين أيدينا، بالصورة والصوت نسمع، نشاهد، نقارن، نحكم على مستوى هذا وذلك ونقرر في الأخير.

وربما لهذا السبب بالذات تجدني اليوم متفائلا أننا يمكن أن نتخذ القرار الصحيح، ويمكننا أن نعرف الطريق الصحيح، ويمكننا أن نبدأ البداية الصحيحة.. ليس نتيجة توجيه هذا أو ذاك أو نتيجة اللاوعي أو التضليل الإعلامي، إنما نتيجة الإدراك الذاتي القائم على قراءة صحيحة لتاريخ الأحداث ومقارنة حصيفة لطبيعة السلوك اليوم.

ولعلي أكاد أجزم أن أفضل قراءة للموقف الحالي هي قراءة أولئك الشباب الذين يمتلكون القدرة على التحكم في التكنولوجيات الجديدة، وليست قراءة من يمتلكون المال أو النفوذ أو حتى قدماء السياسيين. لست أدري لِمَ أشعر أن هناك بوادر تحول في السلطة ستحدث ببلادنا في هذه الحقبة إذا لم يكن في الأشهر القادمة ففي المستقبل القريب، ولست أدري أيضا لِم أشعر بأن الانتخابات الرئاسية الحالية إنما ستكون هي البداية أو المحرك للبداية. لا أظن أبدا بأن المرحلة التي بدأت منذ سنة 1988 بل منذ الاستقلال ستستمر طويلا.. لقد كان التحول في السلطة يحدث في القرون الماضية خلال قرون، ويبدو أن التسارع المعاصر والتكنولوجيات الجديدة ستجعله يحدث خلال عقود. وقد انقضى من عقود الاستعداد للتحول الكثير، ولم يبق سوى زمن قصير للإرادة الإلهية دور كبير في تمديده أو تقليصه…. وليس أمامنا تجاه ذلك سوى أن نسأل الله تعالى أن يجعله تحولا سلميا رأفة بالبلاد والعباد وأن لا يعيدنا إلى تلك النقطة السوداء التي تحدث عنها السيد بشير فريك وكانت بداية كل ما عرفناه من مآس وأحزان… 

مقالات ذات صلة