الرأي

التلوث البيئي والأخلاقي

أكد تقرير “منظمة الشفافية الدولية” الذي أصدر في الأيام الأخيرة حول انتشار الفساد بالنسبة للجزائر ما هو مؤكد، خاصة في العشرية الأخيرة، حيث صار الناس يرون الفساد بأعينهم، ويلمسونه بأيديهم، ويعرفون الفاسدين والمفسدين بسيماهم، ووالله لقد سمعتُ أحد الكُبراء يقول لصاحبه ما معناه: لقد كان وسخُنا – فيما مضى – لا يعرفه غيرنا؛ ولكنه الآن صار حديث الناس حتى في المقاهي الشعبية.

إذا كان هذا التقرير الذي صنّف الجزائر ضمن أفسد الدول قد جعل بعض الناس في الداخل والخارج يستغربون ذلك؛ فإن الغالبية من الجزائريين والأجانب الذين يتديّرون وطننا، والذين يتعاملون تجاريا مع مؤسساتنا؛ لم يضف لهم هذا التقرير مثقال ذرة في انتشار الفساد من أبسط المؤسسات إلى أعلاها، ومن أصغر الموظفين إلى أكبرهم..

ليست هذه المنظمة الدولية في حاجة إلى ذكر المؤسسات (الرسمية وغير الرسمية) التي يعشش فيها الفساد، فهي جميعا تمارسه، وإن كان بعض المؤسسات الخاصة مضطرة إلى ممارسته حتى تنجز أعمالها، وتقضي مآربها.

لا شيء نطلبه نحن الجزائريين من هذه المنظمة الدولية إلا التكرم علينا في تقريرها القادم بأسماء الأشخاص الفاسدين والمفسدين؛ فإن لم تفعل فليست على شيء.

إن الأمر الذي جعل هؤلاء القذرين يكثرون في الجزائر هو عدم المحاسبة الجادة، وعدم العقاب الصارم الذي يردع هؤلاء الوّسخين عن الاستمرار في قذارتهم..

إن من أكثر الشعارات التي كان لها أسوأ الأثر، وشجعت الفساد والمفسدين هو ذلك الشعار الذي رفعه هواري بومدين في مؤتمر الحزب في أفريل 1964، وذلك ردا على من دعا إلى “تطهير الجيش من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي”، وذلك الشعار الكارثة هو “من الطاهر إبن الطاهر الذي يريد أن يطهر الجيش؟(1)“.

وإذا كان هواري بومدين قد قال هذا الشعار في هذا المجال تحديدا؛ فإنه صار شعارا في جميع المجالات السياسية والاقتصادية، يرفعه المفسدون والفاسدون، وجميع من “في كروشهم التبن” في وجه كل من يدعو إلى التطهير، حتى صار الجزائريون غير المعنيين بتسيير أية مؤسسة، وغير المسؤولين فيها يكادون يجزمون أنه ما من مسؤول – صغيرا كان أو متوسطا أو كبيرا – ليس مورطا في قضية فساد..

كنا في جلسة في إحدى المناسبات فمازحني أحد الظرفاء قائلا: في الجزائر شيء وحيد لم يصبه الفساد، فما هو يا أستاذ؟ فلما لم أدر ما هو قال: إنه الهواء، ووالله لو كان لأحد عليه سلطان -فرد أو مؤسسة- لأمسكه إلا على أصحاب الأموال.. فضحك الحاضرون.. وشر البلية ما يضحك.

لقد أسّس في بداية عهد الشاذلي ابن جديد مجلس للمحاسبة، ولكنه أضيف إلى “الثلاثة التي ليس لها وجود” وهي “الغول، والعنقاء، والخلّ الودود”، حيث وئد في مرحلته الأولى، ولم يحاسب أحد، بل الذي سمعناه هو أن المجلس نفسه وُضعت حوله كثير من الأسئلة، واستهدف الشخص الذي أشار على الشاذلي بتأسيسه.. ولم ينجه من بأس الفاسدين والمفسدين، وبطشهم، ومكرهم، إلا طهارة ذمته.. و”نقاوة كرشه”.

لقد نهى الله – عز وجل – عن الفساد في الأرض، فقال سبحانه وتعالى: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها”، والمعجز في هذا القرآن الكريم أنه لم يقل مثلا: ولا تفسدوا الأرض، فيجعل الفساد منصبا على الأرض؛ ولكنه قال -وهو الأقوم قيلا-: “ولا تفسدوا في الأرض…” ليشمل جميع أنواع الفساد، سواء كان هذا الفساد واقعا على الأرض نفسها أو على أي سلوك أو قانون يفسد الأرض ويفسد الحياة عليها.. وذلك بالتحاكم إلى قوانين تنقض شرع الله.. فتحل الحرام، وتحرم الحلال.. فالجزائر – مثلا – لم تسمح لحد الآن لبنك يحمل كلمة “إسلامي” في اسمه.. وهذا من الفساد في الأرض.

ومما أذكره عندما كنت في وزارة الشؤون الدينية دعوت أستاذا في علم الاقتصاد وطلبت منه أن يُعدّ حديثا دينيا يثبت فيه بالحجة والبرهان إن الرّبا شرّ وبيلّ، وأن عاقبته خسر، ولا يستشهد بأية آية كريمة أو حديث شريف إلا في آخر الحديث الديني، ووفق الأستاذ الفاضل – وهو الآن في جامعة الأغواط – .

وغداة ذلك الحديث هاتف مسؤول كبير السيد وزير الشؤون الدينية، وقال له بعد كلام المجاملة إن معنى الحديث الديني بالأمس هو أنكم تحرضون الناس على عدم التعامل مع المؤسسات المالية “الوطنية”، فأجابه السيد الوزير – وكنت شهيدا على الحوار -: إننا لم نقل في الحديث الديني إلا ما جاء في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، وتلك هي مهمة وزارة الشؤون الدينية التي عهدت بها إليها الدولة، وإن الوزارة لم تقل للناس لا تتعاملوا مع هذه المؤسسات لأنها ربويّة، ومثلها في ذلك كمثل وزارة الصحة التي تصف للناس أضرار الخمر، وتبين لهم أخطارها، ولكنها لا تأمرهم بمقاطعتها.. فبهت ذلك المسؤول..

لقد جمعت في عنوان هذه الكلمة بين التلوثين البيئي والأخلاقي، لأن أحدهما خطر على الحياة الطبيعية، والآخر خطر على الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.

إن الجزائر قد أصبحت في هذه العشرية الأخيرة من أكثر أقطار الأرض قذارة، ووسخا، وتلوثا غذاء، وماء، وهواء، وقد أصبحت في الدرك الأسفل من حيث التلوث الأخلاقي، من سرقات، ورشاوى، وتهريب للأموال، وتهرب من الضرائب، وفسوق، وفجور، وغش، وتزوير للانتخابات في جميع المستويات..

لقد كان الرجاء معقودا عندنا على هذا التيار المنتسب إلى الإسلام ليؤخلق الحياة السياسية، فإذا كثير من أفراده أصابهم ما أصاب غيرهم.. فكانوا كمن وبّخهم الله – عز وجل – في قوله: “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟”. وفي قوله: “يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.

على الجزائريين الأطهار، الشرفاء وهم موجودن في كل مكان، وفي جميع المستويات أن يتنادوا للتفكير في كيفية إنقاذ الجزائر الحبيبة فإنها بسبب المفسدين على شفا جرف، لا يبقي ولا يذر.. وصدق ابن الجزائر البار، الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي خدمها، ومحضها النّصح، حيث قال: “أشقى الأمم أمة يجبن علماؤها، ويبخل أغنياؤها، وأشقى منها أمة تغلط في موازين الرجال (2)“، وهذه هي الطامة الكبرى، ورحم الله أحمد شوقي القائل:

وليس بعامر بنيان قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا

ولا أدل على هذا الخراب مما شاهدناه في الانتخابات التشرييعة والبلدية الأخيرة، و”اللهم لا نسألك ردّ القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه”.

.

هوامش:

1) مذكرات الشاذلي ابن جديد… ص 205

2) جريدة البصائر. ع 86. في 11 / 7 / 1949. ص2

مقالات ذات صلة