-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر في زمن البقرات العجاف

الجزائر في زمن البقرات العجاف

انتهى –في جزائرنا- زمن اقتصاد الرَّيْع، وسياسة البيْع، وانتهى عهد الفساد والإفساد، بالمال المكتسب من التنقيب، والترغيب، و”التشكيب”. لقد حل بنا منطق الأضداد، الذي تقر به الطبيعة، وتسلم به الشريعة.

النهار يعقبه الليل، والربيع يعقبه الصيف والخريف، والعطاء والنماء يعقبه السلب والجفاء، والرخاء يعقبه الغلاء، والبقرات السمان، التي كانت تمدنا بالأطنان من اللحوم والألبان، فيتغذى بها الألمان، والفرنسيون، والطليان، والأسبان، وغيرهم من الكوريين، والصينيين، واليابان، هذه البقرات السمان، أعقبتها بقرات عجاف، سنتحول فيها إلى معوزين أجلاف، ضعاف البنية نحاف.

كيف انحدرنا إلى هذا الدرك الأسفل من المصير، فجأة، وكانت لنا في عالم المال والأعمال جولة وصولة، بنينا فيها كل شيء إلا الإنسان والدولة؟ فأين هي مدخراتنا؟ وأين هي مقتصداتنا؟ كيف انكشفت –بسقوط أسعار البترول- عوراتنا، وبانت سوءاتنا، وانتقلنا –فجأة- من البحبوحة المالية، إلى التقشف والمديونية؟

لئن تفاجأ بعض السذج أو الطيبين مما حدث لنا، فإن الراسخين في علم الاقتصاد والسياسة، والمتضلعين في علوم الإنسان والدراسة، كانوا يتوقعون مثل هذا النحس وهذه التعاسة، ويخشون علينا، من أن يزج بنا –دولياً- في عالم النخاسة.

النهب الفوضوي والممنهج، للمال العام، طيلة عهد البقرات السمان، وضعف الرقيب والرقابة، وتواطئ المحاسب مع النهّابة، كل ذلك أدى إلى ما نحن قادمون عليه من أنواع المهالك والإصابة.

وقد لاحت الأعراض في مجلس النواب عندما بدأ الامتحان التمهيدي للضمائر، فتبارى الأحرار والحرائر، في محاولة الدفاع عن الجزائر، لدراسة قانون المالية العاكس للأزمة الشمولية وكان بمثابة القانون الجائر.

إن قانون المالية الجديد المصادق عليه؛ قد جاء بمثابة تضميد للجراح، والتقليل من الخسائر والأتراح، ذلك أن الصحافة ما فتئت من عهد بعيد، تكشف عن خلايا التهريب للعملة الصعبة، بالتحريف، والتزييف، بالمليارات، فأين كانت مصالح الرقابة الاقتصادية، وأين الجمارك، والمدارك، ورقباء حدود المسالك، التي هي سبب كل المهالك؟

ألا يحق لنا أن نقول للجزائري اليوم ما قالته بالأمس البعيد أم الأمير سلطان بني الأحمر بالأندلس: “ابك بدموع النساء، مجدا لم تدافع عنه دفاع الرجال”.

أو قول الشاعر العربي:

أوتيت ملكاً فلم تحسن سياسته  وكل من لا يسوس الملك يخلعه

الجزائري، لم يكن في مستوى الجزائر العالية والغالية، كما بناها الأبطال، وخطط لها الشهداء بالنضال، فالمبذرون، حتى في حياتهم اليومية الخاصة، متسببون في ما آل إليه الاقتصاد الوطني. والمهربون على الحدود، للبترول، والدواء، والغذاء، على حساب طاقات، وأمراض، وغذاء شعبهم، هم مسؤولون عن النزيف الاقتصادي الذي أصاب الجزائر.

فما بالك بمن يخطط للتهريب، ويمالئ الأجنبي على القريب، فيسرق سرقة من لا وطن له، وليس فيه حبيب؟

إن أبسط ما تعلمناه، من قواعد علم الاقتصاد أن الادخار هو أساس كل إعمار.. وأن الدرهم الأبيض، يُدخر لليوم الأسود، وأن الاقتصاد نصف المعيشة. فلماذا لم يعمل ساستنا ومقتصدونا بهذه القواعد وغيرها، للاستثمار البعيد المدى، بدءاً بالاستثمار في الإنسان، الذي هو رأس مال الوطن؟ ولماذا فرّطنا في العقول المهاجِرة، التي ساهمت في تنمية بلدان أخرى، على حساب بلدانها، وهي التي ما فتئت تعلن ولاءها واستعدادها، للمساهمة في النهوض بالوطن، غير أن أصواتها، ونداءاتها، ظلت صدى في فراغ كمن يؤذِّن في مالطة؟

ولماذا هُمشت الكفاءات القادرة، داخل الوطن، وأسندت المسؤوليات، لغير مستحقيها، فانعكس ذلك على حساب التنمية الوطنية، في شكل ثغرات مالية، وبناء هش، وإنتاج قائم على الغش؟

ألا يحق لنا أن نقول للجزائري اليوم ما قالته بالأمس البعيد أم الأمير سلطان بني الأحمر بالأندلس: “ابك بدموع النساء، مجدا لم تدافع عنه دفاع الرجال”.أو قول الشاعر العربي:أوتيت ملكاً فلم تحسن سياسته  وكل من لا يسوس الملك يخلعه.

إن داء الجزائر الذي ينخر جسمها، داء عميق يستبد بها منذ زمن طويل، لأنه فقد المشخص الحقيقي والمستبطن للمستتر من الأمراض، ولم ينجح في تجاوز الظاهر من الأعراض، فاستفحل الداء، وأدى إلى ما نعانيه اليوم من مخاطر، قد تؤدي إلى الانقراض.

والآن وقد بلغ السيل الزُّبى، ما هو الحل؟ هل نستسلم للتحديات وما أكثرها؟ هل نقاوم؟ وكيف نقاوم؟.. يجب أن نستلهم من ديننا، وفيه كل العلاج. “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها” نحن اليوم على أبواب قيام القيامة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، والأخلاقية في جزائرنا الحبيبة، وفي أمتنا العربية الغريبة، وقد تكاثرت النبال، وتجمعت النصال، غير أن ما يشفع لنا، أننا نملك وسائل العلاج، ونحمل فوق أرضنا، وعلى ظهورنا، ألواناً شتى من الدواء، وكل ما ينقصنا هو الوعي بما نملك، والشعور بما نستطيع أن نقدم، فالمطلوب منا أن نبدأ من جديد، وأن لا نستسلم للسقوط، فليس العيب أن نسقط، ولكن العيب كل العيب أن نبقى ساقطين.

إنا منا الصالحون، ومنّا دون ذلك، والصالحون هم الأكثر، فليعِ الصالحون معنى قدرتهم، وليهيّئوا طاقاتهم، وليوحّدوا كلمتهم، وليضربوا بيد من حديد على الفاسدين، المفسدين، فمنهم كل العطب.

ما يزال وطننا –والحمد لله- يزخر بكل الطاقات الكامنة فيه، وفي مقدمتها طاقة الإنسان عموماً، وطاقة الشباب على الخصوص، فليع الإنسان قدرته البنّاءة، وليشمر على ساعد الجد، وليدع جانباً، بؤر الفساد والعنف، ومختلف الآفات الاجتماعية، من أجل البناء الصحيح الحقيقي، المضاد للزلازل.

يجب أن نتعلم من الهزائم النفسية التي منينا بها، فنحول الهزيمة، بالإصرار، والإرادة، والتصميم، والتخطيط، إلى انتصار، حتى نفوت على المتربصين بنا، وبوطننا، في الداخل والخارج فرصة القضاء علينا، ولنتمثل قول الشاعر الفلسطيني الخالد إبراهيم طوقان في قوله:

كفكف دموعك، ليس ينفعك البكاء ولا العويل

وانهض، ولا تشكو الزمان فما شكا إلا الكسول

واسلك بهمتك السبيل، ولا تقل كيف السبيل

ما ضاع ذو أمل سعى يوماً، وحكمته الدليل.

* * *

وطن يباع ويشترى، وتصيح فليحيا الوطن!

لو كنت تبغي حقه لبذلت من دمك الثمن

ولقمت تندب حظه لو كنت من أهل الفطن

ولنعمل –في الأخير- على أن لا تتحول البقرات السمان نسبياً، إلى بقرات عجاف كلياً، ففي ذلك القضاء على كل مقوماتنا، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء. إن شعبنا –كما قال إمامنا محمد البشير الإبراهيمي- قد يرضى بسوء التغذية، ولكنه لن يرضى أبداً بسوء التربية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • hamza benabide

    كلام جميل ياشيخ لكن لا تخف من الجوع وانما الخوف وكل الخوف من ضياع الاخلاق والمبادئ قد حان الوقت دور جمعية العلماء اليوم قبل الغد في التحضير لجيل كجيل ابن باديس من خلال الرجوع الى كتاب الله وسنة ورسوله .

  • محلل سياسي واعر

    الجزائر في زمن البقرات العجاف
    لماذا كل هذا التشاؤم يا أستاذ
    الجزائر بخير و ستبقى بخير ان شاء الله
    بقي شيء واحد هو هذا الشعب الذي ما قدم لبلاده شيئا يفتخر به سوى تكسار اليدين و الرجلين
    الدول تتقدم و تزدهر و تصعد الى السماء بعلمائها و بشعبها و نحن ماذا قدمنا للجزائر
    نسافر الى الخارج فنعمل كل الأعمال أما في الجزائر فكل الشعب يحب أن يصبح رئيس جمهورية يأمر و فقط أما أن يساهم و يشمر على سواعده ليخرج بلاد الشهداء من محنتها فهذه بالنسبة اليه من المستحيلات السبعين كفانا كلاما لسنا مقتنعين به

  • أحمد

    يا سيد قسوم, لما الله سبحانه وتعالى أغاثنا بسبع بقرات سمان ورزق دولتنا ب1000 مليار$ كعائدات, ماذا فعلت حكومتنا الموقرة؟ تبذير في تبذير على مشاريع فاشلة كالطريق السيار ومشروع مليون سكن بني منه 200 ألف فقط, ومشاريع ترامواي في مدن لا تحتاجه, وبرامج ثقافية كتلمسان عاصمة اسلامية وقسنطينة عاصمة عربية ووهران عاصمة السينما العربية والقائمة طويلة! ولكن كل هاته المشاريع لم تشيدها اليد العاملة الجزائرية, ولمدة 18 سنة لم نستثمر في تكوين يد عاملة جزائرية! المال يزول ولكن الشباب يبقى وللأسف هاجر ولازال يهاجر!

  • sami

    هل ينفع الكلام ؟؟؟ اشخاص في مسؤوليات ويلوون الكلام حسب الظروف والمصلحة . لماذا لم تنطق في عز التبذير يا استاذ ؟ ام المصلحة لم تكن لتقتضي ذلك ؟
    هل لأن المركب يمكن ان يغرق لذلك تحضروا انفسكم لخطاب جديد يتوافق والمرحلة المقبلة ؟

  • بدون اسم

    ياسي عبد الرزاق قسوم قال عنك المجاهد عبد القادر نور مدير الاذاعة سابقا بانك كنت قدمت به وشاية للمستدمر الفرنسي اثناء الثورة التحريرية وزج به في السجن هو وامه فاذا كان هذا العمل صحيحا فكيف بك تتراس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وانت من الحركى حسب شهادة نور الي قدمها على المبااشر في حصة متلفزة ؟

  • محسن سوف

    لا فضَّ اللهُ فوكَ بوركت استاذنا الفاضل

  • مواطن

    لولا"لا تقنطوا من رحمة الله"لقلت لك إنك تعيش في الأحلام.في ريعان شبابي قمت بما تمليه علي تربية آبائي وأحرص على تطبيق القوانين.لكن أول من لامني على ذلك من كان يبعث إلي بالتعليمات الرسمية بل كان يشير إلي بالمتشدد أو يعاتبني بأن الدولة ومؤسساتها ليست إرثا لي من أجدادي.وكثيرا ما كنت أقضي الليل لألوم نفسي على عدم اتباع غيري في إهمال ما كنت قائما عليه حتى أفلح برضا من كان حولي وأغظ الطرف عن كل ما يخالف الوسط.لقد غنم المفسدون وضاع حق المجدين.من له القدرة على التغيير هو أول من يعيث في الأرض فسادا.......

  • حاج براهيم

    السي الكاتب استشهد بابيات شعرية في موضوع اقتصادي 100ف100
    هل اليونانيون والاسبان وكل من يتخبط في الازمة سيستشهد بابيات الشعر ام يقدم حلول وتخمينات ووو؟
    قالك كنا وكنا والله ثم والله لو نسلم الجزائر لشعب بثقافة فرنسية او يابانية او او .....لنحل جميع مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية ووو ولكم في فلسطين سابقا *اسرائيل*خير دليل النظام العمل والتشجيروالمعاهد الكبرى والجامعات والاكتشفات
    من كان يعمل قبل الثورة وماهي ثقافتهم وهل كانوا يشعرون لينبت القمح ؟

  • الشهريار

    أم اننا سنبقى دوما كالقطيع نساس بساسة حكم القوي ....احترامي

  • الشهريار

    تحليل جميل أستاذنا الراقي احييك عليه كان استنطاقا في البدايةللجرح ثم أسبابه واخير زرع قيم الأمل و عدم القنوط والنهوض من جديد ، إن الدولة المصونة من حيث درت أو لم تدري نجحت نجاحا باهرا في جعل الكثير من شباب هذا الوطن في براثن المخدرات التى جعلت منهم مرضى نفسيين ان لم نقل عقليين ،ما يحز في خاطر اي عاقل منا أن هذه الدولة التي تملك وزارات واطارات من النخبة فشلت في التخطيط والتسيير طيلة البحبوحة ومن العيب والعار أن لا تعترف أنها فشلت وانه قد آن الأوان ان يحاسب الفاشل عن فشله أم

  • بدون اسم

    ما كتبته يا سيدي ليس بالامر الجديد... فما كتبت ثقافة يعرفها القاصي و الداني .... لكن حال الجزائر اليوم ليس كحالها على الاقل قبيل الثورة......فقد كانت اسوا ...رغم هذا فالعلامة بن باديس استطاع ان ينهض بها ويخرج لنا جيلا افتك استقلاله بالتضحيات......و ها انتم على راس نفس الهيئة التي تركها و على احسن حال ... ماذا فعلتم؟ انتم ما استطعتم ان تجرؤ على قول كلمة حق.... و اتخذتم من الجمعية موردا لكسب الرزق او حلب البقرة كما قلت فمنصبك الذي انت فيه ان لم يفد الامة كما افادها من قبل فهو استغلال .

  • ابرهيم

    المسؤولون يتصرفون في المال العام كانه اموال اباءهم باي حق تمسح الديون الدول الافريقية بدون استشارة الشعب .
    نحن كنا صغار نتمنى ان نتعلم ثم نعمل لبناء منزل بجهدنا الخاص و كان التعاون بيننا ما يسمى التويزة اليوم الكل الفقير و الغني اصبح ينتظر مساعدة من الدولة لا عمل و لا دراسة لولا لطف الله سخر لنا يد العاملة من الدول الافريقية في مجال الفلاحة و البناء لكنا في مازق
    تفشت السرقة و الربا و المخدرات و السبب الدولة افسدت هدا الشعب اصبح chomage de lux هناك عمل موجود لكن اختار البطالة و الربح السريع

  • صالح/الجزائر

    الشعب الطيب لا يستفيد من البقرات السمان ، لكنه في المقابل يتضرر من البقرات العجاف .
    التجربة علمتنا أن المستفيدين من : " من أجل حياة أفضل " ، ومن " مخطط محاربة الندرة "( PAP) عندما كان الريع للبقرات السمان جد كبيرا ، حتى فاض على الألمان،الفرنسيين، الطليان، الأسبان،الكوريين،والصينيين.. ، هم الذين استثمروا فوائدهم واستفادوا من الأزمة الحادة التي أعقبت ووقعت بعد 1986 عندما كان الشعب الطيب المغلوب على أمره مجبرا للوقوف ، ساعات لا متناهية في الطوابير ، من أجل كيس دقيق ، باقيطة خبز أو بيدونة زيت ... .