-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحياة في غزّة.. والموت عندنا!

سلطان بركاني
  • 623
  • 0
الحياة في غزّة.. والموت عندنا!

لا زلنا نحصي بقلوب يملؤها الأسى وتخنقها الحسرة، شهداءنا في أرض العزّة غزّة، وها هو تعدادهم قد تجاوز 35 ألفا، معظمهم من الأطفال والنّساء، نحتسبهم عند الله شهداء، وفي الآخرة من السّعداء.. فاضت أرواحهم بعد أن روّعت قلوبهم وجوّعت بطونهم، ومنهم من فاضت أرواحهم عن أجساد مقطّعة متناثرة، أو أبدان تحت الرّكام مردومة.. مشاهد تتقطّع لها القلوب الحيّة، لا يخفّف حرقتها غيرُ تلك الصور والمقاطع التي تبثها كتائب العزّ، لغزواتها ضدّ الصهاينة الجبناء؛ صور ومقاطع تدمير الدبابات المتطورة، وقنص الجنود المرعوبين، وأسر القادة الميدانيين المخذولين.

35 ألف مسلم استشهدوا في غزة خلال 238 يوما.. ماتوا ميتة عزّ وشموخ، رحمهم الله.. غابت أجسادهم عن الدّنيا، لكنّهم بإذن الله أحياء عند ربّهم يرزقون، أرواحهم تسرح وتمرح في الجنّة.. في هذه الفترة، وخلال هذه الـ238 يوما، منذ السابع من أكتوبر إلى يومنا هذا، مات ما يقارب 39 مليون إنسان في هذا العالم، أكثر من 25 مليون منهم ماتوا على الكفر والشرك والإلحاد، وأرواحهم الآن مسجونة في قبور ضيّقة، يعذّبون صباح مساء، وتعرض عليهم منازلهم في النار غدوا وعشيا.. وبين الـ39 مليونا الذين ماتوا خلال هذه الأشهر الثمانية، هناك أيضا مسلمون صالحون قضوا أعمارهم وقلوبهم معلّقة بالدّار الآخرة، يرجون أن يرحمهم الله ويسكنهم جنّته ويريهم وجهه الكريم، عاشوا يقيمون الصلوات ويتلون الآيات ويخرجون الصّدقات، ويصلحون في الأرض ولا يفسدون.

ومن بين الـ39 مليونا الذين ماتوا، هناك -كذلك- مسلمون رحلوا على غفلة وتقصير وتهاون وإهمال وسوء حال وفعال. كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكنّه إيمان خامد خامل، ينظرون إلى اليوم الآخر على أنّه موعد بعيد. أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات وتعلّقوا بالمآكل والملابس وشُغلوا بالتنافس في المظاهر الفانية، حتى فاجأهم الموت من غير ميعاد، ووجدوا أنفسهم يُطلبون للحساب وهم الذين كانوا يظنّون الأعمار أطول من ذلك بكثير، وكانوا يحسبون أنّه لا يزال أمامهم وقت كاف ليتوبوا ويصلحوا!

نحن الذي نعيش الأمن والعافية والأمان، من كثرة ما نرى من أهوال في قطاع غزّة، أمسينا نظنّ بأنّ الموت هو في غزّة فقط، بينما الحقيقة أنّ أهل غزّة يحيون وينتقلون من دار التّعب والنّصب إلى دار الراحة والنعيم.. والموت الحقيقي هو ديارنا ومن حولنا نحن الذين انشغلنا بالفانية عن الباقية وبالدور عن القبور، وبالأموال عن الأهوال. في كلّ يوم نسمع أخبار الموت من حولنا، لكنّنا صرنا نسمعها كما نسمع أخبار الدّنيا، وأحسننا حالا من يتأثر لدقائق معدودات، ثمّ يعود إلى ما كان عليه، لا شيء في حياته يتغيّر، ولا شيء في مظهره ولا مخبره يتبدّل، ولا شيء في برنامجه يتزحزح أو يتحوّل!

موت الفجأة يخطف من حولنا الشّباب قبل الشيوخ، والأصحاء قبل المرضى. نفقد في كلّ أسبوع من أحبابنا وأصحابنا وأقاربنا من نفقد، فنعجب لفجأة رحيلهم، ونتذكّر كيف أنّهم قبل أيام، بل قبل ساعات، كانوا معنا يكلّموننا ونكلّمهم ويضحكون إلينا ونضحك إليهم، لكن فجأة ومن دون سابق إنذار وجدنا أنفسنا نصلّي عليهم ونسير في جنازاتهم وندفنهم تحت التراب. كأنّهم ما عاشوا بيننا ولا خرجوا إلى دنيانا. منهم من نتذكّره بصلاحه واستقامة حاله، بحرصه على الصلاة في بيت الله، وبره بوالديه، وإحسانه إلى جيرانه والناس من حوله.. ومنهم من نتذكّره بغفلته وإعراضه، بترك الصلاة وتعاطي المخدّرات وهجر القرآن وكثرة الخصومات لأجل الدنيا.. شابّ كان يستعرض طيشه في قيادة الدراجة على الطريق، ويضحك ملء شدقيه، تنتهي حياته فجأة في حادث مرور فتطوى صحيفته بذلك الموقف المحزن..

شابّ آخر يتباهى بتهوره في قيادة السيارة في موكب عرس، تنتهي حياته فجأة في حادث مفاجئ وهو يلهو ويلعب، وينتهي وجوده بين النّاس بذلك المشهد الذي يقطّع القلوب.. آخرُ كان مع رفقة السوء يتعاطون المخدّرات ويتبادلون النّظر إلى مقاطع الإنترنت الإباحية، فجأة يجد شعورا غريبا، فيعود إلى البيت، وما هي إلا ساعة من الزّمان حتى ينتشر خبر وفاته على مواقع التواصل ويتداعى الأقارب والجيران لحمل جثته ومواراتها التراب.. شابّ آخر أصابه حجر طائش في أحد الملاعب، حُمل إلى الإنعاش، لم يلبث حتى غطي جسده بالإزار الأبيض، وقيل لأهله: عظم الله أجركم.. لكأنّه ما كان بين الناس ولا كان يأكل ويشرب ويلهو ويلعب!

وفي المقابل: كم من عبد نحسبه من الصالحين: يصلّي في بيت الله مع المصلين، يركع مع الراكعين ويسجد مع الساجدين، ثمّ يعود إلى بيته، وفي الصلاة التي بعدها، يتهامس رواد المسجد: فلان انتقل إلى رحمة الله. لقد صلى معنا قبل ساعات هنا في المسجد، قبل الصلاة كان يقرأ القرآن هنا عند هذه الأسطوانة!

هكذا تتباين أحوال الراحلين فجأة، منهم من يموت فيبكي عليه أهله وأبناؤه أياما معدودة ثمّ ينسونه، لكنّ هناك ما يبكيه وقتا طويلا وأمدا بعيدا. يفتقده ويبكي عليه مكانه الذي يصلي فيه في المسجد، وتفتقده وتبكيه الأسطوانة التي يستند إليها، ويفتقده ويبكيه المصحف الذي يقرأ فيه. ويفتقده ويبكيه الطريق الذي يسلكه إلى المسجد. تبكيه سجادته التي كان يصلي عليها النوافل وقيام الليل في بيته، ويبكيه موضع سجوده الذي كان يبتل بدموعه، وربما تبكيه مسبحته وقميصه الذي يصلي فيه وقلنسوته التي كان يتزيّن بها للصلاة.

وفي المقابل، هناك من يبكيه أهله بعض الأيام، ثمّ يُنسى فلا يذكره ولا يبكيه شيء ولا أحد. حتى أصدقاء الدّنيا الذين كان يجتمع معهم في المقاهي والاستراحات على القيل والقال والغيبة، ما تمرّ إلا أيام معدودة حتى ينسوه، فلا يذكرونه بدعاء ولا ثناء.. طريقه إلى المقهى لن يفتقده ولن يبكيه، ومكانه حول الطاولة في المقهى لن يفتقده ولن يبكيه.. بل ربّما يموت العبد الغافل فيستريح منه الأهل والجيران، ويدعو عليه من ظلمهم وآذاهم وأخذ حقوقهم…

يتبع بإذن الله…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!