الرأي

الحُكم أخلاق

جاء في كتاب “الأنيس في الوحدة” للشيخ محمد أديب كلكل (ج3. ص 105) أن الأمريكيين طلبوا من جورج واشنطن أن يكون رئيسا عليهم، وألحوا عليه في ذلك، فكان يعتذر إليهم في قبول ما يطلبونه منه، ولكنهم لم يقبلوا عذره، فقد كانوا يرونه أهلا لهذا المنصب.

استمهل جورج واشنطن قومه ليعرض الأمر على والدته ويستنصحها.. فلما فاتحها في الأمر، وأخبرها برفضه لما عُرض عليه، استفسرته عن سبب عدم استجابته لرغبة قومه في أن يتولى رئاستهم.. فقال لها: إنني لست أهلا للحكم، لأنه يحتاج إلى علم وخبرة.. وأنا فقير فيهما..

قالت هذه الأم الحكيمة، وهي تركز نظرها على ولدها: يا بني، إن الحكم في حاجة إلى الأخلاق، فإن كنت قد قبضت قبضة مما نشّأتك وربّيتك عليه من أخلاق، فاستجب لما عرضه عليك قومه، وطلبه منك شعبك.. فعمل الابن بنصيحة أمه الحكيمة.. وسعد الأمريكيون برئيس أشرف ذمة وأرقى سلوكا من كثير من رؤساء العرب والمسلمين..

ومن قبل نصيحة هذه الأم الحكيمة كان سيدنا يوسف – عليه السلام- قد طلب من ملك مصر أن يجعله على خزائنها مقدّما بين يديه ما يجعله أهلا لتلك المسئولية الخطرة، وهي الإشراف على اقتصاد دولة مهددة بكارثة اقتصادية، حيث كانت مقبلة على أزمة ذات وجهين؛ الوجه الأول هو بحبوحة اقتصادية تغري بالسفاهة، وهي التبذير والإسراف، والوجه الثاني  هو تعرضها لضائقة اقتصادية خانقة، تكون عاقبتها مجاعة قاتلة..

إن المبرر الذي قدمه سيدنا يوسف- عليه السلام- لطلب تلك المسئولية هو نفسه الذي يقدمه كل طالب مسئولية في دولة حقيقية وهو “السوابق العدلية، والشهادة العلمية”.. إلا في دولتنا “الرشيدة” حيث يمكن للمرء أن يكون شيئا مذكورا وهو “بريء” من “داء” العلم، و”تهمة الأخلاق”. ولهذا كثر اللصوص والمرتشون، والمزوّرون.. و.. و.. وهذا المبرر هو “الأخلاق والعلم”،() حيث جاء في القرآن الكريم على لسّان سيدنا يوسف- عليه السلام- قوله لملك مصر: “اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”.

لقد لاحظ أولو النّهى أن سيدنا يوسف – عليه السلام – قدّم الخلق وهو الحفظ، الأمانة، على العلم.. لا استنقاصا من العلم، ولا استهانة منه، ولا استقلالا له؛ ولكن لأن العلم نسبيّ، فالبشر جميعا لم يؤتوا منه إلا قليلا، وأنه فوق كل ذي علم عليم، وقديما قال شاعرنا الحكيم:

فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة  علمت شيئا وغابت عنك أشياء

بينما لا نسبية في الأخلاق، فمن سرق تمرة سيسرق بقرة، ومن سرق دينارا سيسرق قنطارا.. وكما يكون المسئول الأول في الدولة يكون من تحته..

وعندما تعجب سيدنا عمر – رضي الله عنه- من كثرة ما أداه إلى الدولة عُمّاله على الأمصار وقادته العسكريون وقال قولته: “إن قوما أدّوا هذا لأمناء” علّق عليه سيدنا علي – كرم الله وجهه- قائلا: “عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا”..

إن قيمة الأخلاق وأهميتها في حياة الناس عامة والقادة منهم خاصة لتتجلى لكل ذي عينين وكل ذي عقل في عدم وصف الله – عز وجل – لرسوله – عليه الصلاة والسلام- بالعلم؛ بل وصفه بأنه أمّيّ، وأنه لم يعلّم الشعر، ولم يكن يدري ما الكتاب، ولا يخطه بيمينه؛ ولكن الله – سبحانه وتعالى – وصفه بالخلق العظيم، وعرفت قريش فيه هذا الخلق الكريم فسمته “محمد الأمين”.. فأين هم الأمناء في هذا البلد المسكين؟

اللهم ارحم هذا البلد وأهله، وأبعد عنه إخوان الشياطين، من المبذرين والمسرفين، والسارقين، والمرتشين، والمزورين، وولّ عليه وعليهم الأمناء الأخيار، والشرفاء الأبرار، ولا تولّ عليه وعليهم السفهاء الأشرار..

 .

هوامش:

 

 () لقب حكام مصر القدماء هو “فرعون”، ولكنهم في عهد يوسف – عليه السلام- لم يكن الحكام مصريين، وإنما كانوا من الهكسوس، ولهذا لم يرد وصف حاكم مصر بـ “فرعون”، وهذا من دقة القرآن الكريم وإعجازه”.

مقالات ذات صلة