الجزائر
الباحث في‮ ‬مناهج اللغة العربية البروفيسور المغربي‮ ‬محمد الحناش لـ"الشروق‮":‬

الدعوة إلى العامية باطلة علميا وبيداغوجيا‬

الشروق أونلاين
  • 7771
  • 2
ح.م
البروفيسور المغربي‮ ‬محمد الحناش

نسف أستاذ اللسانيات الحاسوبية في‮ ‬جامعة‮ “‬فاس‮” ‬المغربية،‮ ‬البروفيسور محمد الحناش،‮ ‬مبرّرات الدعوة إلى اعتماد العامية في‮ ‬التعليم،‮ ‬مؤكّدا أنها حجة باطلة علميا وبيداغوجيا،‮ ‬وأوضح الخبير الدولي‮ ‬في‮ ‬مهارات الاتصال في‮ ‬اللغة العربية،‮ ‬أنّ‮ ‬ضعف مستوى التلاميذ لا علاقة له بالفصحى،‮ ‬بل هو مشكل ناجم عن مناهج التدريس في‮ ‬البلاد العربية،‮ ‬والتي‮ ‬انتهت صلاحيتها منذ زمن طويل‮!‬

وفي‮ ‬حوار مع جريدة‮ “‬الشروق‮”‬،‮ ‬يعتقد مدير المجلة الدولية‮ “‬التواصل اللساني‮”‬،‮ ‬أنّ‮ ‬العرب لم‮ ‬يستقرّوا على تصور منهجي‮ ‬واضح المعالم بخصوص التعليم،‮ ‬بل‮ “‬هم قوم تبّع في‮ ‬البيداغوجية لا‮ ‬يبدعون مناهج ولا نظريات‮”.‬

تعرف الجزائر في‮ ‬الآونة الأخيرة جدلا واسعا حول إدراج‮ “‬العامية‮” ‬في‮ ‬بداية التعليم الابتدائي،‮ ‬هل ترون هذه الفكرة مؤسّسة علميّا وبيداغوجيا؟

أعتقد أن انتشار مثل هذه الدعاوى في‮ ‬هذا الظرف بالذات،‮ ‬أصبح موضة العصر في‮ ‬دنيا الدول التي‮ ‬عانت من ويلات الفرنكفونية،‮ ‬التي‮ ‬ترى أداتها اللغوية تندحر‮ ‬يوما بعد‮ ‬يوم،‮ ‬مثل هذه الدعوة أيضا كانت قد ظهرت في‮ ‬لبنان،‮ ‬وظهر لها خبراء أرادوا تعميم التعليم بالعامية في‮ ‬جميع المراحل،‮ ‬بل إنهم طالبوا بإلغاء العربية الفصحى بوصفها وسيلة لنقل المعارف وحاملة الهوية،‮ ‬ولكن محاولاتهم باءت بالفشل‮.‬

وبالنظر إلى السؤال،‮ ‬أرى أن الدعوة إلى العامية بوصفها محركا للعملية التعليمية في‮ ‬دول المغرب العربي،‮ ‬بدل اعتماد اللغة العربية الفصحى،‮ ‬ينبئ عن أن هناك فشلا ذريعا في‮ ‬فهم العملية التعليمية برمتها،‮ ‬إذ كيف‮ ‬يعقل أن‮ ‬يتم التخلي‮ ‬عن لغة مقننة‮ ‬يستطيع التلميذ استيعاب قواعدها التي‮ ‬انضبطت مع الزمن،‮ ‬وأصبحت تفوق الكثير من لغات العالم،‮ ‬انضباطا في‮ ‬القواعد توليدا وتحليلا،‮ ‬ويلجأ إلى استخدام لغة لا تملك من التقنين الصوري‮ ‬أي‮ ‬نصيب لحد الآن،‮ ‬لتتخذ لغة تنقل بها المعارف التي‮ ‬أصبحت تتعقد‮ ‬يوما بعد‮ ‬يوم‮. ‬

تطمح جميع الدول إلى تكوين أبنائها ليصبح متعلمها منتجا عالميا ذا تكوين معرفي‮ ‬ومهاري‮ ‬عال،‮ ‬وهذا لا‮ ‬يكون إلا بلغة تختصر المسافات الزمنية في‮ ‬برمجة العقول،‮ ‬وهذه اللغة‮ ‬يجب أن تكون نفسها مبرمجة أو قابلة للبرمجة البيداغوجية،‮ ‬بينما تذهب بعض الدول،‮ ‬مثل بلداننا نحن في‮ ‬شمال إفريقيا إلى الدعوة إلى اعتماد لغة لا نصيب لها في‮ ‬التقنين،‮ ‬سيكون الأمر مقبولا لو كانت لدينا لهجة مقننة،‮ ‬يمكن نقل المعارف عبرها بين دول المعمورة،‮ ‬كما هو شأن أي‮ ‬لغة عالمية،‮ ‬لكن وضع العاميات في‮ ‬وطننا العربي‮ ‬يدعو إلى التشرذم أكثر من الدعوة إلى التوحيد،‮ ‬ما‮ ‬يجعل الدعوى باطلة من الأساس،‮ ‬لا علميا ولا بيداغوجيا‮.‬

أتصور أن هذه الانهزامية التي‮ ‬نعيشها في‮ ‬وضع أسس متينة لتعليم لغة الضاد بمعزل عن اللغات الأوروبية،‮ ‬هو الذي‮ ‬يفتح الباب أمام كل مدّع أن‮ ‬يتجاوز هذه اللغة العالمية بكل المقاييس،‮ ‬إنها لغة رياضية بامتياز،‮ ‬ووضعها الدولي‮ ‬يجعل منها لغة قادرة على احتلال الصدارة في‮ ‬لغات التدريس،‮ ‬لا أن تكون في‮ ‬وضع المدافع عن نفسها،‮ ‬لا أمام العامية ولا أمام اللغات الأجنبية التي‮ ‬هاجمتنا في‮ ‬عقر دارنا بأدوات تدعي‮ ‬الحداثة والحضارة‮.‬

هل‮ ‬يعلم دعاة العامية أن اعتمادها كوسيلة تعليم سيؤدي‮ ‬إلى ضياع الوقت،‮ ‬كونها لغة‮ ‬غير مقننة نحويا،‮ ‬ما سيجعل التلميذ‮ ‬يقضي‮ ‬وقتا أطول في‮ ‬تعلم العامية التي‮ ‬ما تزال في‮ ‬مستوى الشفوي،‮ ‬ولم تنتقل إلى مستوى الكتابي،‮ ‬علما أن الأمم تتطور معرفيا اعتمادا على ما تكتبه،‮ ‬لا على ما تتفوه به،‮ ‬لأن هذا الأخير معرض للنسيان،‮ ‬مما لا‮ ‬يؤهله لضمان استمرارية نقل المعارف‮.‬

لكن وزارة التربية في‮ ‬الجزائر تزعم أن التلاميذ‮ ‬يتعرضون لـ”صدمة نفسية‮” ‬عند التحاقهم بالمدرسة،‮ ‬نتيجة استعمال اللغة الفصحى،‮ ‬هل ترى هذا الطرح مبرّرا منهجيا؟

الصدمة النفسية الحقيقية هي‮ ‬التي‮ ‬سيعاني‮ ‬منها الطفل،‮ ‬عندما‮ ‬يريد تدوين معلوماته ليرجع إليها لاحقا،‮ ‬فيعوزه الحرف والمفردة والجملة،‮ ‬لأن هذه الوسيلة التي‮ ‬ستعتمد في‮ ‬نقل المعارف‮ ‬غير منمطة،‮ ‬وتفتقر إلى أبسط الطرق في‮ ‬الضبط الكتابي‮ ‬والقرائي‮ ‬وهلم جرا،‮ ‬اللهم إذا كان الهدف من هذه الدعوى العودة إلى الثقافة الشفوية والتخلي‮ ‬نهائيا عن الثقافة المكتوبة التي‮ ‬طورتها البشرية إلى أن أصبحت رقمية بامتياز‮.‬

مما‮ ‬يضعف هذه الحجة كونها تفتقر إلى البرهان العلمي‮ ‬التربوي‮ ‬الصحيح،‮ ‬خلافا لاعتماد العربية الفصحى التي‮ ‬تقوم على قواعد مضبوطة ومنسجمة تماما مع النظام اللساني‮ ‬الكلي،‮ ‬الذي‮ ‬تقوم عليه كفاية الطفل أينما وجد في‮ ‬هذا العالم الواسع‮.‬

ولنتأمل الزمن الذي‮ ‬قضاه أسلافنا في‮ ‬بناء صرح العربية إلى أن أصبحت منمطة،‮ ‬بل مبرمجة وذات نظام رياضي،‮ ‬لو تأملناه جيدا سنجده‮ ‬يواكب التطور المعرفي‮ ‬الذي‮ ‬يتحصل عليه التلميذ في‮ ‬دروس الرياضيات والعلوم على اختلاف أصنافها،‮ ‬فهل نحن مستعدون لضياع الوقت نفسه الذي‮ ‬قضاه السلف في‮ ‬صياغة قواعد لغة الضاد حتى تتأهل للتعليم؟ الجواب واضح‮.‬

هم‮ ‬يطالبون بالحفاظ على‮ “‬الرصيد الاجتماعي‮ ‬للغة الطفل‮” ‬حتى‮ ‬يتدرّج في‮ ‬تعلّم العربية،‮ ‬هل هي‮ ‬فعلا مرحلة ضرورية لاكتساب اللغة الجديدة؟

الرصيد الاجتماعي‮ ‬لا علاقة له علميا وتربويا بلغة الطفل،‮ ‬هذا الأخير‮ ‬يراكم الخبرة الاجتماعية بعيدا عن اللغة،‮ ‬وعلى كل حال ليست العامية هي‮ ‬التي‮ ‬سيخزن بها تجاربه الاجتماعية،‮ ‬لأنها ليست قادرة على الاسترجاع المعرفي‮ ‬بطريقة مقننة،‮ ‬إذ ليس الهدف من التراكم المجتمعي‮ ‬هو تخزين البيانات عن المجتمع،‮ ‬بل الأهم من ذلك هو استرجاعها من أجل توظيفها في‮ ‬التطور المجتمعي‮ ‬الذي‮ ‬يقبل عليه الطفل في‮ ‬مراحل نموه وتطوره المعرفي‮. ‬

علميا،‮ ‬تخزن اللغة في‮ ‬كفاية الطفل ابتداء من مرحلة متقدمة من العمر،‮ ‬وبعضهم‮ ‬يقول إن ذلك‮ ‬يبدأ قبل أن‮ ‬يخرج من رحم أمه،‮ ‬لكن الطفل لا‮ ‬يخزن أي‮ ‬لغة محددة في‮ ‬كفايته،‮ ‬إنه‮ ‬يخزن القواعد الكلية التي‮ ‬تشترك فيها جميع لغات العالم،‮ ‬وهي‮ ‬القواعد التي‮ ‬تترجم إلى أنحاء عملية‮ ‬يتعلم بها الناس المعارف المتعلقة بجميع المجالات،‮ ‬العلمي‮ ‬منها والإنساني‮ ‬وغيره،‮ ‬إذن لا علاقة للعامية بشكل خاص بتراكم التجارب الاجتماعية،‮ ‬لسبب بسيط،‮ ‬هو أنها ليست لها أنحاء عملية قابلة للضبط توليدا وتحليلا،‮ ‬ما‮ ‬يجعلها وسيلة‮ ‬غير مقننة،‮ ‬وبالتالي‮ ‬ستعرقل العملية التعليمية بدل أن تطورها‮.‬

أكثر من ذلك،‮ ‬يدّعي‮ ‬القائمون على قطاع التعليم أن اعتماد العامية سوف‮ ‬يسهّل على التلاميذ اكتساب مهارات اللغة العربية،‮ ‬هل هذا صحيح؟

كيف سيمكن لوسيلة تعليمية‮ ‬غير مقننة أن تيسر اكتساب مهارات لغة مقننة؟ العكس،‮ ‬ربما سيكون صحيحا في‮ ‬بعض الحالات النادرة،‮ ‬لكن‮ ‬غير العربية،‮ ‬أما أن تتولى العامية تيسير مهارات لغة قائمة ولها من القوة أن أصبحت من أكثر لغات العالم استجابة للرقمنة،‮ ‬فهذا أمر في‮ ‬غاية الغرابة‮.‬

المدافعون عن خيار‮ “‬العامية‮” ‬في‮ ‬المدرسة،‮ ‬يتحجّجون أيضا بضعف مستوى التلاميذ في‮ ‬اللغة العربية،‮ ‬هل هذا‮ ‬يعود إلى نوع اللغة أم إلى مناهج تعليمها؟

هذه مصادرة مغلوطة،‮ ‬لا علاقة لضعف مستوى التلاميذ في‮ ‬اللغة العربية الفصحى باللغة نفسها،‮ ‬فالفصحى لا تتحمل أي‮ ‬مسؤولية في‮ ‬هذا الأمر،‮ ‬بل إن التخلف الذي‮ ‬يعرفه إتقان العربية‮ ‬يعود بالأساس إلى طريقة تعليمنا لها،‮ ‬وإلا لكان تعلم اللغات الأجنبية أولى بهذه الصعوبات،‮ ‬لأنها لغات مختلفة نظاما على جميع الصعد عن اللغة العربية الفصحى،‮ ‬ومع ذلك‮ ‬يتعلمها التلاميذ بكل‮ ‬يسر،‮ ‬ويتقنونها في‮ ‬زمن قياسي،‮ ‬وذلك راجع إلى الديداكتيك التعليمي‮ (‬فنّ‮ ‬التدريس‮) ‬المطبق في‮ ‬تعليمها،‮ ‬بل إن التلاميذ‮ ‬يمكنهم أن‮ ‬يتلقوا بها معارف معقدة في‮ ‬مرحلة مبكرة من التعليم،‮ ‬والسبب‮ ‬يعود أساسا إلى طريقة تلقينها،‮ ‬خلافا للغة العربية التي‮ ‬ما زالت تدرس بطرق كربونية،‮ ‬أي‮ ‬بطرق مستنسخة حرفيا من تراث تعليمي‮ ‬انتهى زمنه الافتراضي،‮ ‬وأصبح لزاما على معلميها أن‮ ‬يبدعوا طرقا جديدة في‮ ‬تعليمها،‮ ‬وإلا سيأتي‮ ‬زمن سنضطر فيه،‮ ‬أمام التطورات المنهجية لتعليم اللغات العالمية،‮ ‬إلى المطالبة بإحياء اللغة الفصحى،‮ ‬وليس فقط استبدال العامية بها في‮ ‬التدريس،‮ ‬ويبدو أننا في‮ ‬حاجة إلى وقفة تأمل بيداغوجي‮ ‬أمام هذا الاندحار الذي‮ ‬أصبحت تعرفه مناهج تعليم اللغة العربية،‮ ‬ما شجع جهات كثيرة على التجرؤ للمطالبة باعتماد العاميات في‮ ‬التدريس‮. ‬

ما هي‮ ‬البدائل المنهجية لتحسين مستوى اللغة العربية لدى الناشئة وتجاوز دعاوى العامية في‮ ‬المدرسة؟

لا توجد وصفة جاهزة نجيب بها عن هذا السؤال،‮ ‬فالمناهج التعليمية كثيرة،‮ ‬تتأقلم مع كل لغة على حدة،‮ ‬وعلينا نحن العرب أن نختار الإطار النظري‮ ‬الذي‮ ‬سنعلم به لغتنا،‮ ‬فقد نجحت دول أوروبا في‮ ‬وضع الإطار الأوروبي‮ ‬المشترك لتعليم اللغات وتقييمها،‮ ‬ونجحت في‮ ‬ذلك،‮ ‬ونحن منذ أن بدأنا نتحدث عن تعليم العربية ونحن نتحدث عن ديداكتيك تعليم العربية،‮ ‬ولم نصل لحد الساعة إلى الاستقرار على تصور منهجي‮ ‬واضح المعالم،‮ ‬فقد جربنا جميع المناهج ولم نوطن عندنا المنهج الذي‮ ‬سنتبناه،‮ ‬انتقلنا من الإطار التقليدي،‮ ‬وعانقنا بيداغوجيا الأهداف،‮ ‬ولما تبين أنها لا تربط التعليم بسوق الشغل انتقلنا إلى بيداغوجيا الكفايات،‮ ‬وأضفنا إليها بيداغوجيا الإدماج لتقوية عضدها في‮ ‬التعليم،‮ ‬وها نحن أولاء نستعد للنزول من مركب هذه البيداغوجيات كلها لنعانق المجهول‮. ‬نحن لسنا مبدعي‮ ‬مناهج ونظريات،‮ ‬بقدر ما نحن قوم تبع من الناحية البيداغوجية،‮ ‬كلما ظهرت موجة جديدة في‮ ‬الغرب،‮ ‬نصفق لها ونستوردها كما نستورد البضائع،‮ ‬دون التساؤل عن ملاءمتها للغتنا التي‮ ‬لها ماض عريق استقرت فيه على نمط رياضي‮ ‬ـ حاسوبي‮ ‬مختلف عن بقية لغات العالم‮. ‬وأتعجب أن تغيب عن باحثينا هذه الخصوصية اللسانية للغة الضاد التي‮ ‬أصبحت مصدرا لبناء أنحاء اللغات الأخرى بدل أن نكون مجرد مقلدين لغيرنا‮.‬

أتصور أنه في‮ ‬مقدورنا أن نضع إطارا منهجيا ملائما للغة الضاد،‮ ‬يمنع عنها هذا الهجوم المباغت الذي‮ ‬نسمع عنه بين الفينة والأخرى،‮ ‬والذي‮ ‬يدل في‮ ‬عمقه على حقد دفين تكنه بعض الطبقات السياسية للّغة ومنه إلى متكلميها‮. ‬وأعتقد أنّ‮ ‬الحل ممكن في‮ ‬إطار هندسة اللغات الطبيعية التي‮ ‬أثبتت نجاعتها في‮ ‬بناء أنحاء صورية قادرة على دخول معترك التعليم في‮ ‬كافة مستوياته،‮ ‬وهوما تفتقر إليه العاميات العربية‮ ‬غير الموحدة تركيبيا وصواتيا وصرفيا،‮ ‬إلخ‮. ‬

ما هي‮ ‬مخاطر التخلّي‮ ‬عن‮ “‬العربية الفصحى‮” ‬في‮ ‬التعليم الابتدائي‮ ‬لصالح‮ “‬العامية‮”‬،‮ ‬على مستوى البيداغوجيا والهوية بشكل عام؟

ليست مجرد مخاطر،‮ ‬بل هو تدمير شامل للهوية العربية الإسلامية التي‮ ‬ترتكز عليها شعوب المنطقة،‮ ‬ما معنى أن تتخلى عن لغتك التي‮ ‬تجمعك بشعوب العالم العربي‮ ‬الممتد من المحيط إلى الخليج،‮ ‬والانزواء وراء لهجة محلية‮ ‬غير قادرة على مساعدتك على اجتياز حدود بلدك،‮ ‬كيف سيتعامل التلميذ مع نظرائه في‮ ‬المنطقة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يتعامل مع زملائه في‮ ‬وطننا العربي‮ ‬الكبير،‮ ‬ما الوسيلة اللغوية التي‮ ‬سيمتلك بها المعارف العلمية الجديدة التي‮ ‬تتطور بدون توقف،‮ ‬والتي‮ ‬لا‮ ‬يوجد أي‮ ‬مرجع علمي‮ ‬محرر بها في‮ ‬بلده قبل العالم؟ بل كيف سيفهم دروس الفيزياء والحاسوب والرياضيات في‮ ‬المراحل التعليمية اللاحقة،‮ ‬إن هو تعلم كل شيء في‮ ‬صغره بعاميته المقزمة جغرافيا؟ اللغة عملة الوطن وهي‮ ‬رمز سيادته،‮ ‬إن فرط فيها الوطن سيكون كمن فرط في‮ ‬كيانه حاضرا ومستقبلا‮. ‬اللغة تبني‮ ‬الشعوب عن طريق نقل المعرفة،‮ ‬فإن هي‮ ‬خربت فاقرأ على الشعوب السلام،‮ ‬وأمامنا مثال إسرائيل التي‮ ‬أحيت لغتها من رماد،‮ ‬وها هي‮ ‬اليوم تحتل الصدارة المعرفية بين الأمم،‮ ‬بينما نحن نحاول قتل لغتنا رديف هويتنا لفائدة جهات تحاول ضربنا في‮ ‬الصميم بخلق هذه المشاكل المصطنعة‮.‬

لذا لا أعتقد أن مسعى التعليم بالعامية سيكون له مصير إيجابي‮ ‬في‮ ‬الجزائر أو في‮ ‬غيرها من البلدان العربية التي‮ ‬ظهرت فيها مثل هذه البدع التربوية لفائدة الأسياد‮.‬

أظنّ‮ ‬أنّ‮ ‬هذا النقاش مطروح في‮ ‬المغرب الشقيق أيضا،‮ ‬ما هي‮ ‬برأيكم خلفياته السياسية والسوسيولوجية في‮ ‬المنطقة المغاربية عموما؟

نعم،‮ ‬لقد طرح بعض دعاة الفرنكفونية الموضوع نفسه في‮ ‬المغرب،‮ ‬لكن دعواهم باءت بالفشل،‮ ‬فتم تجاهلها كليا في‮ ‬التقرير الاستراتيجي‮: ‬2015‮ ‬ـ‮ ‬2030‭ ‬الذي‮ ‬أصدره المجلس الأعلى للتعليم،‮ ‬الذي‮ ‬صدر رسميا قبل شهر ونيف من اليوم،‮ ‬ويمكن الاطلاع عليه في‮ ‬موقع هذا المجلس،‮ ‬فتم تكريس اللغة العربية الفصحى،‮ ‬إلى جانب أكثر من لغة عالمية،‮ ‬طبعا في‮ ‬مقدمتها الفرنسية لأنها اللغة التي‮ ‬يملك المغرب أطرها إلى حد اليوم،‮ ‬على أمل أن‮ ‬يتم تكوين أطر باللغة الإنجليزية في‮ ‬المستقبل القريب‮. ‬الشعب المغربي‮ ‬يعارض تماما اعتماد الدارجة المغربية في‮ ‬التدريس لأسباب بيداغوجية وعلمية أيضا،‮ ‬لأن العربية الفصحى هي‮ ‬اللغة التي‮ ‬تملك مرجعيات قواعدية‮ ‬يمكن اعتمادها في‮ ‬تدريس المواد العلمية والأدبية في‮ ‬مرحلة التعليم الابتدائي،‮ ‬أما عندما‮ ‬يصل التلميذ إلى مرحلة التعليم المتوسط أو الثانوي‮ ‬فسيكون قد أصبح متمكنا من العربية ويمكنه حينئذ أن‮ ‬يتلقى المعارف بلغات أخرى،‮ ‬على أن تستمر العربية الفصحى في‮ ‬أداء دورها الوظيفي‮ ‬إلى نهاية التعليم الثانوي‮.‬

تجب الإشارة إلى أن الدعوة إلى العامية في‮ ‬المغرب لم تكن فقط تقتصر على تدريس العامية،‮ ‬بل كانت تهدف،‮ ‬وهذا هو الأخطر،‮ ‬إلى تلقين المعارف العلمية بها،‮ ‬وبذلك‮ ‬يتم تناسي‮ ‬العربية الفصحى نهائيا‮.‬

مقالات ذات صلة