-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ثاموغلي‭ ‬

الدولة‭… ‬في‭ ‬غياب‭ ‬ثقافة‭ ‬الدولة‭ ‬

الدولة‭… ‬في‭ ‬غياب‭ ‬ثقافة‭ ‬الدولة‭ ‬

من المفروض أن الدولة هي العليا، والسلطة هي أداتها لتكريس العدل باعتباره أساس الملك، من المفروض أيضا أن الولاء للدولة وليس للسلطة. لكن هشاشة مؤسسات الدولة التي صارت كأنها أعجاز نخل خاوية، قد قلبت موازين المنطق، فجميع المؤشرات تؤكد وقوع الدولة في قبضة السلطة السياسية التي عقدت العزم على مواصلة السير وفق نهج السياسة الخرقاء. ورغم أن جميع المؤشرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية قد انهارت إلى الخطوط الحمراء، فمازال منهج العمل لدى كبار قومنا يسير بمنطق “كل شيء على ما يرام”. ولتفادي التشويش على سياسة الهروب إلى الأمام، أحكموا غلق جميع المنابر أمام الرأي الآخر، وانقلبوا على منطق الحياة القاضي بتكريس مبدإ تدافع الأفكار الذي أقرّه الشرع والعقل، فأحلوا مكانه منطق “ما أريكم إلا ما أرى”. أما ما يصدر من أفكار وآراء خارج مخابر السلطة، فهو لا يعدو أن يكون ـ برأيهم ـ لغطا، ولغوا، وثرثرة تنضح برائحة الخيانة داخل وخارج الوطن! لذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم. وإذا حدث أن اشتدّ عليهم ضغط الشارع، فهم يتغامزون ويتهامسون بمنطق “سمعنا وعصينا” أو (دزّو معاهم) بلسان العامية.

جوهر‭ ‬ثقافة‭ ‬الدولة‭ ‬
    ليس المقام هنا لتقديم تعريف أكاديمي لمفهوم ثقافة الدولة، بل المقصود أولا هو تلمّس الإشكالية في وعي العوام، الذين أدركوا بالمعاينة والمشاهدة إشكالية غياب ثقافة الدولة. فمن معانيها الأساسية بالمفهوم الشعبي، عدم خيانة الشعب، وتلافي التنكّر لسيادته، وتفادي الدوس على إرادته المنبثقة من إرادة الله، وهو ما يستوجب انحناء الحكام أمامها، وليس العكس. وكذا تقديم أعوان الدولة لمصلحة الوطن والمواطن، من خلال حرصهم على تطبيق روح القانون، ومعاملة المواطنين على قدم المساواة، وتلافي ذهنية المحاباة التي تحدث شروخا في مفهوم المواطنة. ومن دلالات الإخلاص للدولة، أن المسؤولين السياسيين وموظفي إدارة الدولة الجزائرية، هم في طليعة من تفترض فيهم التضحية، بحكم تقديم مصالح الأمة وشعبها فوق جميع الاعتبارات، وكذا إشاعة ذهنية الإيثار، ومحاربة الأثَرَة في النفس، ولو كانت بها حاجة.
 
الالتفاف‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬نوفمبر
    لا شك أن الطامة الكبرى عندنا، هي في سلوك  أكابر الدولة الذين لم يسيروا على هدى قيم الثورة، واكتفوا باختزالها في شعارات جوفاء بغرض المغالطة والمخاتلة، وجعلوها بمثابة حصان طروادة للزحف نحو المغانم. علما أن هذه الثورة العظيمة صنعها الشعب، الذي لم يتخرّج أبناؤه من المدارس العليا والجامعات، بل استمدّوا قوتهم من العقيدة الصحيحة والوطنية الصادقة، فنجحوا في توفير التربة الخصبة لزرع الفكرة الجنينية لهيبة الدولة الجزائرية الحرة التي كانوا يحلمون بها. فرغم الصعوبات الجمة، وقلة ذات اليد، فقد نجح الشعب في بناء ثورته على نحو دوّخ الاستعمار الفرنسي، فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت أموال الثورة تنقل في أكياس وفي ظروف صعبة، دون أن يخطر في ذهن أحد أن يمدّ يده إليها. وعندما كـُلّف بعض المجاهدين غداة استرجاع الاستقلال، بتسيير الأملاك الشاغرة – في انتظار بعث الدولة الجزائرية من‭ ‬جديد‮ ‬‭- ‬أبدوا‭ ‬إخلاصا‭ ‬منقطع‭ ‬النظير،‭ ‬إذ‭ ‬وزّعوا‭ ‬بعضها‭ ‬على‭ ‬المحتاجين،‭ ‬وتجاوزوا‭ ‬حاجات‭ ‬عائلاتهم‭ ‬الملحّة،‭ ‬فأعطوا‭ ‬بذلك‭ ‬درسا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬القدوة‭ ‬الحسنة،‭ ‬الضرورية‭ ‬لبناء‭ ‬الدولة‭ ‬العادلة‭. ‬
   وكان من المفروض أن يكون ذلك أحد الأسس المتينة لبناء الدولة. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حين اشتد تسابق شرس نحو الكرسي من أجل حصد المغانم، دون مراعاة تضحيات الشعب، فكانت الفتنة التي أكلت الوازعَيْن الديني والوطني. وتسلق رهط معيّن سُلم السلطة باسم الثورة،‭ ‬لكنه‭ – ‬مع‭ ‬الأسف‮ ‬‭- ‬اغتال‭ ‬الحرية،‭ ‬وهي‭ ‬قيمة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬ثورة‭ ‬نوفمبر‭ ‬المجيدة،‭ ‬وزرع‭ ‬بدلا‭ ‬عنها‭ ‬ذهنية‭ ‬القطيع،‭ ‬فصار‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬القصف‭ ‬بالخطاب‭ ‬الأحادي‭ ‬المخادع‭ ‬يقولون‭ ‬آمين،‭ ‬آمين‭ ‬آمين‭. ‬
   ورغم توفر الاستقرار السياسي للجماعة المنتصرة لمدة ليست بالقصيرة، فإن غياب ثقافة الدولة لدى من كلفوا ببناء الدولة، قد أوردنا موارد البوار، بدليل أننا صرنا بعد انقضاء خمسة عقود من عمر الاستقلال، نؤمن بدولة الأشخاص الخاضعة في تسييرها للأهواء والأمزجة والمكرسة لعبادة الفرد (قرر المسؤول الفلاني). وتم تغييب خطاب دولة المؤسسات التي يسيّرها القانون، وفق إرادة الشعب (باسم الشعب قررت الدولة). والحاصل أن مفهوم الدولة قد صار مختزلا في شخص رئيس الدولة الذي لم يتوان في يوم ما عن التصريح بقوله: “أنا الدولة”. علما أن هذه‭ ‬المقولة‮ ‬الشمولية‭ ‬كانت‭ ‬جارية‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬ملوك‭ ‬أوروبا‭ ‬المستبدّين‭ ‬قبل‭ ‬انتصار‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬
 
خـُلِـقَ‭ ‬الأبناء‭ ‬لغير‭ ‬زمن‭ ‬الآباء
   رغم وصول رياح الديمقراطية إلى العالم العربي، في وقت متأخر نسبيا، مقارنة بمنطقتي أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية، اللتين تخلّصتا من الأنظمة المستبدة، منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي. رغم تغير المعطيات الدولية بظهور العولمة بدلالاتها السياسية والاقتصادية والإعلامية، التي قلصت من صلاحيات الدول القطرية، وفتحت مجال التواصل بين الشعوب على مصراعيه، الأمر الذي شدد الخناق على الأنظمة المستبدة التي دأبت في الماضي على قمع شعوبها وسط أجواء من التعتيم الإعلامي. ورغم تجاوب الشباب العربي مع هذه التحولات التي فتحت الطريق أمامه لتحقيق طموحه الشرعي في بناء الدولة الديمقراطية، التي رسم بيان أول نوفمبر معالمها وفق شخصيتنا الجزائرية، رغم ذلك كله فإن حكامنا قد جعلوا أصابعهم في آذانهم، وركبوا أهواءهم، بدل الاستماع إلى نداء العقل الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن رياح التغيير‭ ‬قادمة‭ ‬إنْ‭ ‬آجلا‭ ‬أو‭ ‬عاجلا،‮ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يستوجب‭ ‬دفع‭ ‬الأمور‭ ‬نحو‭ ‬التغيير‭ ‬السلس‭ ‬الذي‭ ‬يتم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬القانون،‮ ‬وبأقل‭ ‬التكاليف‭. ‬
   حدث ذلك بسبب افتقار أصحاب المعالي إلى ثقافة الدولة، فقد جعلهم الغرور يتصوّرون أنهم من غير طينة الشعب، وأنهم خلقوا ليكونوا أسيادا مدى الحياة! أما الشعب فهو – في نظرهم – مجرد قطيع أنعام، خلق ليكون قاصرا مدى الحياة، يُساق ولا يُستشار، يُهان ولا يُكرم. وبذلك‭ ‬تم‭ ‬وأد‭ ‬قيم‭ ‬نوفمبر‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة،‮ ‬على‭ ‬مرأى‭ ‬ومسمع‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬صنع‭ ‬نوفمبر،‭ ‬فكم‭ ‬أنت‭ ‬يا‭ ‬دهر‭ ‬هازل‭!  ‬

لمن‭ ‬يعيش‭ ‬أكابر‭ ‬الدولة؟
  من العواقب الوخيمة التي نجمت عن غياب ثقافة الدولة، أن صار أكابر الدولة – إلا من رحم ربّي – يعيشون لبطونهم، وعائلاتهم، ودواويرهم، وعروشهم. أما الدولة التي أحياها الشعب بتضحيات جسام فلها ربّ يحميها، فالوازع الديني جرفه إغواء المنصب، والضمير الخلقي قد ذهب به إغراء الكرسي. ولا بأس في ذلك كله مادام الجميع يعتبر الجزائر المخدوعة بمثابة البقرة الحلوب، يحلبها كل من استطاع إليها سبيلا، وما دام الوضع خاضعا لمنطق: “لو دامت لغيرك ما وصلت إليك”، فإن شغلهم الشاغل هو النهب، ثم النهب، ثم النهب.
  إن الجزائر المخدوعة في حاجة إلى التغيير السياسي الجذري الذي يفتح الطريق لمن يحملون ثقافة الدولة المبنية على أساس شعار: “لا تسأل عما أعطاه الوطن لك، بل اسأل نفسك ماذا قدمت للوطن؟”. وفي انتظار ساعة تحقيق الحلم الوردي، أقول  لأكابر قومنا – الذين تسببوا في ضياع‭ ‬هيبة‭ ‬الدولة‮ ‬‭- ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الأديبة‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭:‬
‭- ‬يا‭ ‬أيها‭ ‬العابرون‭ ‬على‭ ‬جسد‭ ‬هذا‭ ‬الوطن
‭- ‬تمهلوا‭.. ‬فتحت‭ ‬أقدامكم‭ ‬الشهداء‭..‬
‭- ‬أيها‭ ‬الماشون‭ ‬عكس‭ ‬اتجاه‭ ‬الشمس
‭- ‬أخجلوا‭.. ‬لا‭ ‬زال‭ ‬للشهداء‭ ‬عيون
‭- ‬ويا‭ ‬من‭ ‬تكثرون‭ ‬الضجيج‭..‬
‭- ‬أصمتوا‭ ‬قليلا‭… ‬لنسمع‭ ‬صوت‭ ‬الشهداء‮.‬‭   ‬
 ‭ ‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!