-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدين‮ ‬والسياسة‮… ‬في‮ ‬العلاقة‮ ‬بين‮ ‬الشيعة‮ ‬والسنة

مصطفى فرحات
  • 4462
  • 0
الدين‮ ‬والسياسة‮… ‬في‮ ‬العلاقة‮ ‬بين‮ ‬الشيعة‮ ‬والسنة

عندما تكلم بعض المفكرين عما أسموه “خدعة التحليل العقدي” كمنهج يحدد رؤية المسلم للواقع المحيط به، باعتباره ميزانا للحوادث، وفيصل تفرقة بين الصواب والخطإ، أو بين الحلال والحرام، اعتبر كثيرون أن هذا تجنٍّ على الشريعة وطعن صريح يُلحق بحملتها، وفي طليعتهم العلماء الذين لا يزال يُنظر إليهم على أنهم “أهل الحل والعقد”، الذين تدور على اختياراتهم اختيارات الأمة، وتُحدد بمواقفهم مواقف الجماهير العريضة، بل والأمة الإسلامية بأسرها، بوصفها كيانا سياسيا وعقديا له موقفه الخاص والواضح من الأحداث السياسية المحيطة به.

  • هذا التمسك الشديد بما اصطلح على تسميته “التحليل العقدي”، جاء موازاة مع رفض غيره من الرؤى، ليس بصفتها تخضع لمناهج قاصرة توصل إلى نتائج خاطئة، وإنما بصفتها رؤى مارقة عن الدين ولا ترتبط به، وهو ما يعني ضمنا تقديم “التحليل العقدي” كرؤية شرعية (قطعية الثبوت والدلالة) يصبح الخروج عليها خروجا على الشريعة الإلهية نفسها. وهذا ما أوقع المدافعين في سلسلة من التناقضات المريعة، لا يمكن فهمها سوى بفهم طبيعة الواقع المتناقض الذي نعيش فيه ونقع تحت طائلته بصفتنا منفعلين لا فاعلين.
    هذه الرؤية التي تفرض نفسها، بحجة أنها “الإسلام”، جاءت لتتقاطع في كثير من جوانبها مع (الإكليروس) الذي مارسه رجال الدين المسيحيون، ولقد بدا من خلال تصرف بعض المسلمين ـ أو الإسلاميين ـ بمن فيهم رجال العلم الشرعي، أننا بدأنا نعيش في العهود الإسلامية المعاصرة نوعا‮ ‬من‮ ‬التطابق‮ ‬بين‮ ‬الكهنوت‮ ‬المسيحي‮ ‬الذي‮ ‬ثار‮ ‬عليه‮ ‬فلاسفة‮ ‬أوروبا‮ ‬وبين‮ ‬كهنوت‮ ‬جديد‮ ‬يرفع‮ ‬شعار‮ “‬رفض‮ ‬الكهنوت‮”! ‬
    إن المسلك الجديد الذي بدأ يبرز للوجود منذ عقود قليلة، اتخذ شعار الاجتهاد ورفض التقليد ابتداء، لكنه توصّل به إلى الوقوع في مهاوي تقليد أبشع وأفظع، وبصورة مضحكة، رغم أن ما يحدث اليوم هو استنساخ لحركية “إنسان ما بعد الموحدين” بتعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي،‮ ‬بل‮ ‬ولحركية‮ ‬رجال‮ ‬الكهنوت‮ ‬المسيحي‮ ‬أنفسهم‮. ‬
    لقد تحول الفكر الذي رفض التقليد ودعا إلى الاجتهاد، بعد نضال طويل حمله نخبة من المصلحين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، إلى فكر سطحي يستبدل مصطلح “رجل الدين” المسيحي أو اليهودي بمصطلح “العالم‮”،‮ ‬وأستعمل‮ ‬هنا‮ ‬لفظ‮ “‬مصطلح‮” ‬وليس‮ ‬لفظ‮ “اسم”‬،‮ ‬لأن‮ ‬المقصود‮ ‬هو‮ ‬ما‮ ‬يحمله‮ ‬المصطلح‮ ‬ذاته‮ ‬من‮ ‬موروث‮ ‬ثقافي‮ ‬ـ‮ ‬ولا‮ ‬أقول‮ ‬دينيا‮ ‬ـ‮ ‬للتعبير‮ ‬عن‮ ‬المكانة‮ ‬التي‮ ‬يحظى‮ ‬بها‮ ‬حامله‮. ‬
    هل نتحدث هنا عن تمييع لقضايا الشرع، وفتح الباب على مصراعيه أمام كل من يريد أن ينسب شيئا للشريعة من اجتهادات، صحيحة أو خاطئة، مبنية على أصول سليمة أم على مجرد هوى؟ ليس هذا هو مقصودنا، فلكل علم أربابه الذين يتكلمون وفق أصوله، و”من تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب‮”،‮ ‬كما‮ ‬قال‮ ‬الإمام‮ ‬ابن‮ ‬حجر‮ ‬رحمه‮ ‬الله‮. ‬
    ولكن المقصود هنا هو أن العلماء تحولوا ـ في نظري على الأقل ـ من معلمين ومرشدين إلى محتكري النظر وتفسير وشرح نصوص الكتاب والسنة، وفرق شاسع بين أن تتعامل مع فكر، يُقر أحقية العلماء بالنظر في نصوص الشريعة وأهليتهم للفتوى، وبين فكر يجعلهم صاحب الأمر والنهي المطلق فيها، بل ويُحرّم على غيرهم حتى مجرد إبداء تساؤلات أفرزها الكم الهائل من التناقضات المعرفية التي نحملها بداخلنا من جهة، وبين التناقضات الواقعية التي نعيشها في عالمنا الذي أضحى بالنسبة لكثيرين منا، عوالم موازية لا عالما واحدا.
    هذه النظرة التقديسية للعلماء، رغم إقرارهم أنهم بشر يصيبون ويخطئون، هي التي أغرتهم اليوم، كما أغرت بعضهم من قبل، بالحديث في القضايا السياسية، بوصفها امتدادا للقضايا الشرعية لا أكثر ولا أقل، وهو ما جعلهم يقعون في أخطاء كثيرة، سبق وأن نبّه ابن خلدون على بعضها في مقدمته، كما تحدث الجاحظ وابن رشد الحفيد عن مشكلة تداخل العلوم وقياس علم على آخر، وما يجره من نتائج خاطئة (وسنرجع ـ إن شاء الله ـ بشيء من التفصيل في ذلك في مواضيع لاحقة)، في حين أن النظرة الشرعية أضحت جزءاً واحدا من مجموعة أجزاء متداخلة لا علاقة لأكثرها بالأحكام الفقهية أو معايير الحلال والحرام، ومع ذلك يُصرّ بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي على فرض رؤية واحدة و”مطلقة” لمسار الأحداث، تجعل من يخالفها في دائرة “الآثمين”، فهل هناك “كهنوتية” أكبر من هذه، وإن لم يتجرأ أصحابها على تسميتها بذلك؟
    ربما تبدو قضية الصراعات الطائفية والتهديد الذي تمثله على العالم الإسلامي أكبر محدد لهذا الرؤية “الشرعية”… فالمنتسب إلى الشريعة ـ باسم السلف الصالح ـ يخلط جليا بين النظرة الشرعية التي يزعم أنه توصل إليها (ولكن بقناعات سابقة حددت طبيعة الحكم الشرعي) وبين الواقع السياسي الذي يعيشه وكذا ثقل البيئة الضاغط عليه، بكل موروثاته الثقافية وهواجسه النفسية، ورجل العلم قبل هذا وبعده ليس “إماما معصوما”، وإنما تتشكل ذاته من مجموع ثقافته البيئية ومعارفه وهواجسه وطبيعته النفسية، وسنضطر إلى التمثيل ـ مجرد التمثيل ـ على طبيعة‮ ‬التحولات‮ ‬التي‮ ‬تحكم‮ ‬العالم،‮ ‬لأنه‮ ‬إنسان‮ ‬أولا‮ ‬وآخرا،‮ ‬في‮ ‬مواضيع‮ ‬لاحقة‮ ‬بحول‮ ‬الله‮ ‬وقوته‮. ‬
    المهم هو أن بعض العلماء المنتسبين إلى السلف، ومن خلفهم أتباعهم، يمهدون الأرض أمام الأنظمة المتحالفة مع أمريكا، بل وأمام أمريكا نفسها، لأنها العقل المدبر والآمر، من أجل تعرية إيران وقطع امتدادها العاطفي مع بقية العالم الإسلامي، تمهيدا لتوجيه ضربة عسكرية محتملة لها، أو على الأقل محاصرتها أمريكيا باسم الإسلام، وبمباركة علماء الشريعة المسلمين. وقد تم تجربة هذه الخطة لصد “تصدير الثورة” الذي سعى الخميني وأتباعه لتسويقه، دون أن يعني هذا تبرئة إيران أو تبييض صفحتها.
    كان يمكن أن تتبنى الأنظمة العربية مواقف عدائية لإيران، بحكم السياسة لا بحكم الشريعة، وهذا بطبيعة الحال يخضع للمصالح والمفاسد المترتبة على هذا الخيار أو ذاك، أو لنقل إنه يخضع للأسف لحجم العمالة اليوم أكثر من أي ضابط آخر، ولكن من غير المقبول أن تُتخذ الشريعة‮ ‬غطاء‮ ‬لمناورات‮ ‬لا‮ ‬علاقة‮ ‬لها‮ ‬بالشريعة،‮ ‬كما‮ ‬اتخذت‮ ‬من‮ ‬قبل‮ ‬لتجريم‮ ‬المقاومة‮ ‬اللبنانية‮ ‬التي‮ ‬كانت‮ ‬تواجه‮ ‬آلة‮ ‬الدمار‮ ‬الصهيونية‮. ‬
    لكن المشكلة التي لا يدرك كثيرون أبعادها اليوم، هو أن تجريم إيران لن يتم إلا بتجريم المذهب الشيعي، والدخول معه ـ مرة أخرى ـ في سجال عقدي يسعى لفضح تناقضاته وبيان تهافته، وهذا التجريم لا يمكن له أن يتم إلا بتجريم الطوائف الشيعية نفسها، وهي تلك الشعوب الممتدة بين السعودية والبحرين والكويت والعراق ولبنان، وهو ما سيفتح الباب ـ بلا أدنى شك ـ على فتنة طائفية سيكون من أيقظها أول النادمين وهم يرون مرارة ما ستجلبه على العالم الإسلامي بأسره من فوضى ودمار وسفك للدماء وانتهاك للحرمات والأعراض.
    لا يوجد في السياسة صداقات ولا عداوات دائمة، لكنّ تلبيس خيار سياسي عباءة دينية شرعية، يعني الزج بالشريعة في مستنقع سياسي آسن، وهو ما سيجعل »الموقعين عن ربّ العالمين« في ورطة إذا ما تغيّرت المصالح السياسية التي ستطالبهم بفتاوى جديدة، بحيث تصبح الشريعة دائرة مع المصالح السياسية، رغم أن حملتها اليوم يشددون النكير على مدرسة المقاصد التي تربط الحكم بالمصلحة الشرعية، فأيهما أعظم: أن يدور الحكم مع مصلحة شرعية متيقنة، أو مع مصلحة سياسية موهومة؟ إننا ننتظر جواب السادة العلماء.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!