السلطة الرا….ئعة
الذين كتبوا شهادة وفاة الإعلام المكتوب منذ أن ازدانت أحضان السلطة الرابعة بإعلام عابر للقارات بين العنكبوتي والرقمي الذي حوّل العالم إلى بيت صغير تجتمع فيه البشرية بكل أطيافها، أخطؤوا بالتأكيد
-
فما يحدث حاليا في مقر الفدرالية العالمية لكرة القدم من تحقيقات وتوقيفات وعقوبات بتهم رشوة فظيعة ما كان ليكون لولا التحقيقات الميدانية الورقية التي قدمتها صحيفة صنداي تايمز الإنجليزية التي تقمّص صحفيوها دور تجار أصوات أعضاء الفيدرالية وتمكنوا من الإيقاع بهم في حالة تلبّس وهم يطلبون آلاف الدولارات رشوة مقابل بيع ضمائرهم، وتمكنت هذه الصحيفة معتمدة على التطوّر التكنولوجي الذي يدعم الحبر بالصورة المتحركة من هزّ عرش أهم اتحاد في العالم بعد أن عجز الملايير من عشاق اللعبة الساحرة من تحريك شعرة واحدة منه، وعندما تتمكن الصحافة في بلد يقال إنه مهد صحافة الفضائح الصفراء ومهد الرياضة الشعبية الأولى في العالم من الوصول إلى الحقيقة قبل بوليس سكوتلونديارد الشهير فإن الذين سمّوا الإعلام الكلاسيكي بالسلطة الرابعة ربما أيضا أخطؤوا في الترتيب لأنه أحيانا في البلاد المتقدمة هو السلطة الأولى من دون منازع، لأجل ذلك يُنفق الصهاينة على الإعلام أكثر مما ينفقون على التسلّح، فالإعلام يوجع أكثر من الحروب، وأحيانا يصل إلى الحقيقة قبل السلطات الأولى كما حدث مع صنداي تايمز وكما حدث ويحدث مع صحف غربية أسقطت حكومات وجرّت رؤساء إلى الاستقالة ووزراء إلى غياهب السجون.
-
ولأن الصحافة العربية أخذت “صَفار وأصفار” الفضائح عن الإعلام الإنجليزي فكسرت به القيم وليس الطابوهات فقط، فإن السلطة الحقيقية منحت حيّزا من الحرية للإعلام في الجزائر وفي لبنان وفي الكويت وفي غيرها من البلدان، فتحوّلت كل الصحف إلى بوليس يقدم جرائم نهب المال العام وصور لمشاريع تغرق في شبر ماء وتذوب في شبر شمس ولكنها فضائح مازالت من غير تبعات ولا متابعات ولا تحقيقات ولا استقالات من أصغر مسؤول فما بالك برجال الدولة الكبار الذين يتسلّون بهذه الأخبار وربما لا وقت لهم ليقرؤوها.
-
في الشروق اليومي مثلا كتبنا عن قصور وفيلات شيّدت على جنات زراعية خضراء، وعن برامج تنموية استهلكت قرابة الألف مليار دون أن ترى النور، وعن عقاقير سرطانية قُدّمت للماشية لأجل تسمينها لعيد الأضحى المنقضي، وعن عيادات خاصة من دخلها فهو غير آمن على صحته وعلى حياته، وعن نساء معوّقات تزحفن في الأحراش في رمضان بحثا عن لقمة العيش وغيرها من مئات القضايا والفضائح التي بقيت معظمها حبرا على ورق مثلها مثل ما يحدث في الإعلام العربي عموما من حرية على وزن “أكتب ما شئت قل ما شئت وأنا أفعل ما شئت”.
-
الذين كتبوا شهادة ميلاد الإعلام المكتوب الحر في الجزائر مع ميلاد التعددية الحزبية أيضا مخطئون، فأول صحيفة جزائرية حرة أصدرها عام 1908 المبدع عمر راسم أسماها “الجزائر” وهو أول صحفي في العالم تم نفيه عام 1914 بسبب كتاباته عن خطر الصهيونية التي لم يكن أحد يعلم عنها شيئا فحوكم عسكريا وصدرت ضده أحكاما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وحتى الشيخ بن باديس كان صحافيا حارب الجهل والطرقية وتعرض بسبب كتاباته في “المنتقد” وفي “الشهاب” لمحاولة القتل بخنجر منذ أزيد عن ثمانين عاما وتعرض زميله في الإعلام وفي الفكر العربي التبسي إلى التصفية الجسدية بسبب كتاباته.. الصحافة كانت ومازالت شريكا في السلطة في الغرب، وما يحدث حاليا في الاتحاد الدولي لكرة القدم دليل على أنها لم تفقد دورها، والصحافة كانت عندنا شريكا في الثورة وفي النهضة ولكنها مازالت بعيدة عن ……السلطة.
-