الرأي

الشيخ‮ ‬شيبان‮ ‬في‮ ‬ذكراه‮ ‬الأولى

قبل حلول الذكرى الأولى لوفاة الشيخ أحمد حماني بأيام قليلة، التي عقدت في “متحف الجهاد” بمدينة الجزائر، طلب مني الشيخ عبد الرحمن شيبان أن أعدّ كلمة عن الشيخ أحمد حماني ألقيها في تلك المناسبة باسم “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، تلك الجمعية التي ما ذُكر اسمها إلا اهتزت أركان المبطلين، الذين “يأكلون التين بالدين”، ويبيعون الوطن بثمن بخس، فقذفوها بالباطل ليدحضوا حقها، فإذا حقها يعلو، ونجمها يسطع ويلمع، وباطلُهم يزهق ويسفل، ونجمهم يخبو ويأفل في الحياة قبل الممات.

في‮ ‬أثناء‮ ‬الطريق‮ ‬إلى‮ “‬متحف‮ ‬الجهاد‮” ‬استأذنت‮ ‬الشيخ‮ ‬شيبان‮ ‬لألقي‮ ‬على‮ ‬مسمعه‮ ‬ما‮ ‬كتبتُ،‮ ‬لعله‮ ‬يصحح‮ ‬ما‮ ‬يراه‮ ‬حقيقا‮ ‬بالتصحيح؛‮ ‬أو‮ ‬يضيف‮ ‬ما‮ ‬يراه‮ ‬جديرا‮ ‬بالإضافة‮.‬

انتهيت من قراءة ما كتبت فشكرني الشيخ شيبان، وقال لي الجملة التي كان يرددها كلما سمع مني، أو قرأ لي ما يعجبه وهي: “والله، إن هذا ليس من عندك، ولكنه من توفيق الله”، فقلت له مداعبا – وكثيرا ما أفعل ذلك، فلا يضيق صدره-: “مت، وسأكتب عنك كلمة أحسن من هذه”، فضحكنا،‮ ‬الشيخ‮ ‬شيبان،‮ ‬والدكتور‮ ‬ڤسيوم،‮ ‬وكاتب‮ ‬هذه‮ ‬الرقوم‮.‬

وها‮ ‬هو‮ ‬الأجل‮ ‬الذي‮ ‬أجّله‮ ‬الله‮ – ‬عز‮ ‬وجل‮- ‬لعبده‮ ‬عبد‮ ‬الرحمن‮ ‬قد‮ ‬حلّ،‮ ‬فالتحقت‮ ‬ورقاؤه‮ ‬بعالمها‮ ‬الأسمى،‮ ‬ووُسّد‮ ‬جثمانه‮ ‬في‮ ‬التراب،‮ ‬وكان‮ ‬ذلك‮ ‬في‮ ‬يوم‮ ‬12‮ ‬‭/‬‮ ‬8‮ ‬‭/‬‮ ‬2011‮.‬

لقد استعصى عليّ في خلال هذه السنة أن أكتب كلمة عن الشيخ عبد الرحمن شيبان، لأنه أكبر من كلماتي الفقيرة التي تضيق عن معانيه الغنية الكبيرة، فقد ملأ – رحمه الله – دنياه، وشغل الناس، وكان كما وصف، وأنا من الشاهدين: “لا ينام ولا يُنيم”.

لقد كان شيبان جنديا من جند الله – عزوجل- في معركة رهيبة بين الحق والباطل؛ وما هذه المعركة إلا معركة الإسلام في الجزائر ضد الصليبية الفرنسية، التي أرادت نسخ حكم الرحمن وإثبات حكم الشيطان، ولكنها باءت في النهاية بالخسران.

لقد أعدّ شيبان لهذه المعركة كما يعدٌ الجندي، وقد بُدىء إعداده في قرية “الشرفة” بوادي الصومام، فحفظ القرآن الكريم، وأخذ ما يعلم بالضرورة من علوم الدين واللغة في زوايا المنطقة، ليتوجه بعد ذلك إلى جامع الزيتونة ليكمل تحصيله العلمي..

وفي تونس بدأ شيبان يتدرب على الحياة العملية أيضا، فانضم إلى “جمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين”، الذين لاحظوا نشاطه الدائب، وقدرته على التسيير فانتخبوه رئيسا لجمعيتهم، فـ “كان الرئيس الأديب الأريب، وكان (له) حسنات.. حيث سعى السعي كله – مع بعض الشخصيات- في إيجاد مركز للجمعية، تقام فيه اجتماعات الهيأة الأسبوعية، وتستقبل فيه الشخصيات من جزائرية وتونسية، وكان هذا المركز كمفوضية فيه يقع الاجتماع والتحادث مع الشخصيات في كل الشؤون التي تخص الجزائر.. وسعى في كراء مدرسة نهج الوصفان التي تأوي العدد الكبير من الطلبة.‮.. (1)“‬إضافة‮ ‬إلى‮ ‬فضل‮ ‬التنظيم‮ ‬والتنسيق‮ ‬للأعمال‮ ‬الأدبية‮ ‬وإقامة‮ ‬الاحتفالات‮ ‬في‮ ‬المناسبات‮..‬

رجع شيبان من الزيتونة، فوجد قائدا بالصدق، يقود المعركة فتحيز له، وانقاد، فضمه إلى الصفوة التي أقام على كاهلها ذلك المعهد العتيد، معهد الإمام عبد الحميد، ولم يخيّب الجندي “شيبان” ما أمله منه وفيه قائده الإمام الإبراهيمي، وصار قدوة لطلابه، ينجذبون إليه، ويقتدون‮ ‬به‮..‬

وما هي إلا بضع سنين حتى أذّن مؤذن في الجزائر: أن حيّ على الجهاد لتطهير البلاد من الرجس الفرنسي، وتحرير العباد، فكان شيبان – كعلماء الجمعية ومعلميها وطلابها – ملبيا للنداء، وأدى ما كُلّف به من مهمات في الجبهة الإعلامية، التي واجهت أضاليل العدو، وحربه النفسية،‮ ‬فسفهت‮ ‬أكاذيبه،‮ ‬وكشفت‮ ‬جرائمه،‮ ‬وأسقطت‮ ‬قناعه،‮ ‬فبان‮ ‬للعالم‮ ‬على‮ ‬حقيقته‮ ‬البشعة،‮ ‬وفضحت‮ ‬أساليبه‮ ‬الوحشية،‮ ‬حتى‮ ‬أحق‮ ‬الله‮ ‬الحق،‮ ‬وأزهق‮ ‬الباطل،‮ ‬وولّى‮ ‬العدو‮ ‬مدبرا،‮ ‬وإن‮ ‬بقي‮ ‬متآمرا،‮ ‬وكائدا،‮ ‬ومتربصا‮.‬

عاد شيبان إلى أرض الوطن ليساهم في معركة إعادة بناء الدولة الجزائرية، فانتخب نائبا في المجلس النيابي، وكان ممن أبلوا لتثبيت هوية الدولة الجزائرية عبر المادتين اللتين تنصان على أن الإسلام هو دين الدولة، وأن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية.

كما وقف موقفا يحمد عليه إلى جانب الإمام الإبراهيمي عندما تنكر له بعض أعضاء جمعية العلماء، وساندوا الرئيس ابن بلة عندما أمر وزير الداخلية أحمد مدغري، بالقبض على الشيخ الإبراهيمي، الذي أصدر بيانا في 16 / 4 / 1964 ندد فيه بسياسة ابن بلة، ولكن أحمد مدغري حذّر ابن‮ ‬بلة‮ ‬مما‮ ‬قد‮ ‬يقع‮ ‬من‮ ‬اضطرابات‮ ‬قد‮ ‬تهدد‮ ‬النظام‮ ‬فتراجع‮ (2).‬

وكان الشيخ شيبان ممن سعوا حثيثا للاعتراف بأولئك الجنود، وهم المعلمون الأحرار في مدارس جمعية العلماء، فأدمجوا في الوظيف العمومي، وصنّفوا في مختلف أسلاك التربية، وعوّضوا عن سنوات الحرمان، وكانت لجنة الاعتراف والتصنيف والترسيم تحت رئاسة الإمام الإبراهيمي.. ثم‮ ‬صار‮ ‬مفتشا‮ ‬عاما‮ ‬للغة‮ ‬العربية،‮ ‬فـ‮”‬كان‮ ‬المنشط‮ ‬الوحيد‮ ‬لسياسة‮ ‬التعريب‮ (3)“‬،‮ ‬والمشرف‮ ‬على‮ ‬كتب‮ ‬اللغة‮ ‬والأدب‮ ‬للمرحلة‮ ‬الثانوية‮.‬

وفي بداية الثمانينيات عُيّن على رأس وزارة الشؤون الدينية، فأنجز فيها أعمالا متميزة كمواصلته عقد مؤتمرات الفكر الإسلامي، وإنشاء جريدة العصر، وتجديد المجلس الإسلامي الأعلى، ونشر آثار الإمام ابن باديس.

وفي‮ ‬بداية‮ ‬التسعينيات‮ ‬ساهم‮ ‬مع‮ ‬إخوانه‮ ‬من‮ ‬بقية‮ ‬أعضاء‮ ‬جمعية‮ ‬العلماء‮ ‬في‮ ‬بعث‮ ‬الجمعية،‮ ‬وكان‮ ‬من‮ ‬نواب‮ ‬رئيسها‮ ‬الشيخ‮ ‬أحمد‮ ‬حماني،‮ ‬ورأس‮ ‬تحرير‮ ‬جريدتها‮ “‬البصائر‮” ‬في‮ ‬سلسلتها‮ ‬الثالثة‮.‬

وبعد وفاة الشيخ أحمد حماني ثم نائبه الأول الشيخ علي مغربي، – رحمهما الله – اجتمعت بقية الصّحب من أعضاء الجمعية وممن قبضوا قبضة من أثر الجمعية من الجيل الجديد وأجمعوا على أن يعهدوا بالرئاسة إلى الشيخ عبد الرحمن شيبان، فلم يؤده حفظهما، ولم يعي بحملها، فحصل على‮ ‬مقر‮ ‬لها،‮ ‬وإن‮ ‬لم‮ ‬كن‮ ‬لائقا‮ ‬بها،‮ ‬وأعاد‮ ‬إصدار‮ ‬جريدة‮ “‬البصائر‮” ‬واستعاد‮ ‬نادي‮ ‬الترقي،‮ ‬ونجح‮ ‬في‮ ‬عقد‮ ‬ملتقى‮ ‬دولي‮ ‬متميز،‮ ‬وفي‮ ‬ظروف‮ ‬غير‮ ‬مواتية،‮ ‬عن‮ ‬الإمام‮ ‬الإبراهيمي‮…‬

لقد كان شغله الشاغل: وعمله الدائم هو الدفاع عن الإسلام ومبادئه، ونصرة اللغة العربية، والذود عن الوحدة الوطنية.. وما سمع أحدا، أو علم أن أحدا مسّ هذه الثلاثية إلا تصدى له بلسانه أو بقلمه، أو أشار بالرد عليه وإفحامه، حتى سُمّي “حارس القيم الإسلامية”.

وددت أن أسجل بعض ذكرياتي مع الشيخ شيبان – رحمه الله – وأنا لن أنسى فضله المباشر عليّ، وما جحدت هذا الفضل،، وإذا كنت قد اختلفت معه فهو اختلاف – كما قال الشيخ نفسه – في أسلوب العمل لا في المبادىء. وقد أوهمه من لا خلاق لهم ولا مروءة في الجمعية أننا – ڤسوم وأنا‮- ‬نتآمر‮ ‬عليه،‮ ‬ونتربّص‮ ‬به،‮ ‬ونكيد‮ ‬له‮..‬

ولكنه – رحمه الله – تبيّن الحقيقة – فيما بعد – وعبّر عنها في كلة للأستاذ الزبير طوالبي، الذي بلّغها ولم يكتمها. ومما يدل على تبيّنه الحقيقة أنه شرفنا بكتابة مقدمتين لكتابيه: “الجزائر وفلسطين”، و”من هدى الإسلام”.

ومن العجب العجاب أن بعض الذين أوغروا صدر الشيخ علينا – ڤسوم وأنا – ووسوسوا فيه عندما يلتقوننا الآن “يبتسمون” في وجهينا، ويضموننا إلى صدورهم، ويقبلوننا “بحرارة”، وياليتهم كانوا صادقين في الأولى والآخرة.

رحم‮ ‬الله‮ ‬الشيخ‮ ‬شيبان،‮ ‬وأنزل‮ ‬على‮ ‬ضريحه‮ ‬شآبيب‮ ‬رحمته‮.. ‬وكفى‮ ‬المرء‮ ‬نبلا‮ ‬أن‮ ‬تعدّ‮ ‬معايبه،‮ ‬و‮”‬كل‮ ‬بني‮ ‬آدم‮ ‬خطّاءون‮”.‬

.

هوامش:

1)‬الثمرة‮ ‬الثانية،‮ ‬نشرة‮ ‬أصدرتها‮ ‬جمعية‮ ‬الطلبة‮ ‬الجزائريين‮ ‬الزيتونيين‮ ‬1947‮ ‬‭-‬‮ ‬1948‮. ‬صص‮ ‬14‮ ‬‭-‬‮ ‬15

2) ‬د‮. ‬أحمد‮ ‬طالب‮ ‬الإبراهيمي‮: ‬مكذرات‮. ‬ط،‮ ‬دار‮ ‬الغرب‮ ‬الإسلامي‮. ‬ج1،‮ ‬ص‮ ‬238‮.‬

3)‬المصدر‮ ‬نفسه‮.. ‬ج2‮. ‬ص72

مقالات ذات صلة