-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العظماء يُدفنون عدة مرات

العظماء يُدفنون عدة مرات

عندما توفي الشيخ العلامة “الشريف لحذيري”، في شهر أوت من سنة 2016، وهو من أبناء مدينة خنشلة، من الذين تتلمذوا علي يد الشيخ عبد الحميد بن باديس وشارك في جنازته في أفريل 1940، وعاش بعد رحيل رائد النهضة الجزائرية أكثر من سبعين سنة، بكى على فراقه بعض الناس، مرتين، وقال حينها وزير الأوقاف في ذلك الزمن، بأن الجزائر أضاعت من بين يديها رجلا كان قريبا من رائد النهضة الجزائرية، وكان الأجدر بأن يكتب عن عظيم الأمة، وسيكون الأصدق والأقرب إلى الواقع من مؤرخين وكتّاب من داخل الوطن ومن خارجه، جاؤوا بعد عقود من وفاة الشيخ بن باديس، ولام بلغة تأنيب، المؤرخين، الذين منهم من خطّ عشرات الكتب عن ابن باديس، وهو لا يدري بوجود مصدر المعلومة الأول والأصدق، وهو العلامة الشريف لحذيري تلميذ الشيخ بن باديس.

كلامٌ رغم أنه منطقي، كان للاستهلاك الآني، قاله الوزير، بكثير من العنترية، وهو لا يدري -وتلك مصيبة- بأن شقيق الشيخ بن باديس وممرِّضَه في أيام حياته الأخيرة، مازال على قيد الحياة، ويكتنز في ذاكرته القوية حياة الشيخ بتفاصيلها الدقيقة، أو ربما يدري، وتلك مصيبة أعظم.

عندما تُوفي الأستاذ عبد الحق بن باديس الأسبوع الماضي، سألنا أحد أبنائه إن كان الراحل الذي عاش أكثر من قرن من الزمن، قد ترك مؤلفا، أو تسجيلا صوتيا يروي فيه حياة أحد أعظم ما أنجبت الجزائر عبر التاريخ؟ فقدَّم لنا قصاصات جرائد وأشرطة فيديو اتضح بأن أغلبها من اجتهادات “الشروق” بمختلف قنواتها وجرائدها، إضافة إلى مؤلفين من إنتاجه يعنيان بالتصوُّف وليس بالشيخ عبد الحميد، وهذا لا يكفي، فحتى لو فرضنا بأن الرجل لا يمكنه أن يكتب بالجودة المطلوبة، بأي لغة كانت، فمن المفروض أن تكلف وزارة الثقافة أو التعليم العالي أو المجاهدين، أو أي جهة أخرى، كاتبا متفرِّغا، يجمع كل ما يقوله الشقيق عن شقيقه، كما تفعل الكثير من الأمم وفي شتى مجالات الحياة.

في خريف 2002 أجرينا حوارا مطولا مع الأديب المصري نجيب محفوظ في القاهرة، وكان حينها في الواحدة والتسعين من العمر، وما شدنا خلال التحضير للحوار وزمن إجرائه وجلسات التقاط الصور في بيته وفي الفندق الفاخر الذي يتناول فيه يوميا قهوته، هو أن صاحب نوبل، كان يسير صباحا مع كاتب يسجِّل كل كلمة يقولها حتى ولو كانت مع النادل، ويجلس مساء مع كاتب آخر يلتقط أنفاسه ولا يتركها تتبخَّر في الفضاء، وبمجرد أن تُوفي صاحب الثلاثية في صيف 2006، حتى تهاطلت على المكتبة العربية والعالمية عشرات الكتب، مرفَقة بتسجيلات تاريخية، خلَّدت الرجل وتركته كتابا مفتوحا، لمن يريد أن يبحر أدبا وتاريخا.

يقولون إن حياة المفكر مالك بن نبي الذي تُوفي منذ نصف قرن، مازالت تكتنفها الكثير من نقاط الغموض، ولا نكاد نقرأ عن حياته الفكرية والخاصة، إلا من بعض الكتب التي خطّها أجانب، فقد تُوفيت زوجته الجزائرية خدوجة التي عمّرت قرابة المئة عام، منذ سنوات قليلة بقلب الجزائر العاصمة، ولم تقل يوما كلمة عن رفيق حياتها، ولا أحد من المؤرخين أو الكتّاب أو الكاتبات حاول أن يُقوّلها ما تعرفه، إلى أن ماتت ودفنت عظيمَ الفكر مرة أخرى، ولم نسمع إلى حد الآن عن محاولة على الأقل، لجعل ابنتيه القاطنتين في الولايات المتحدة اللتين مازالتا على قيد الحياة وهما دون الستين من العمر، تشاركان في سرد شامل لحياة هذا المفكر الكبير الذي ساهم في بعث النهضة في العالم الإسلامي، فكان نسيا منسيا في حياته وفي مماته.

نقول أحيانا بصدق إن بعض العظماء يموتون عدة مرات في أوطانهم، ولكن هذا الصِّدق تنقصه جرأة الاعتراف، باسم الفاعل.. عفوا القاتل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!