-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الغرب والإنسانية المتوحشة

ناصر حمدادوش
  • 487
  • 0
الغرب والإنسانية المتوحشة

بالرغم من انبعاث الحضارة الغربية من “عصر النهضة” إلا أنها لم تكن ظاهرة ثقافية إنسانية، وإنما مثَّلت أيضًا ولادة للكولونيالية والرأسمالية المتوحشة عبر الإنسان أحادي البُعد، والذي ينظر إلى التطوُّر عبر التقنية وإشباع إرادة القوة والتعطُّش للربح السريع ولو على حساب القيم والمبادئ الإنسانية، هو ما عمَّق أزمة الإنسانية في الثقافة الغربية.

يتحدَّث الدكتور “عبد الوهاب المسيري” في كتابه “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ” في الفصل الأول عن: “الإبادة النازية والحضارة الغربية”، وعن الإشكاليات التي أُثيرت حول الإبادة النازية ليهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية (1939م – 1945م)، ويرى بأنَّ أهمَّ هذه الإشكاليات هي علاقة هذه الظاهرة (الإبادة الجماعية) بالتشكيل الحضاري الغربي الحديث، والتي تقوم على العلمنة الشاملة وتحييد الواقع كله (الإنسان والطبيعة)، وتحويله إلى مادة استعمالية ليست لها قداسة خاصة، بحيث يتم التحكُّم الإمبريالي في الإنسان وإخضاعه للتجريب، من دون تمييزٍ بينه وبين الحيوان، بتحويله إلى مجرد وسيلة.

عملية تفكيك الإنسان هي إمكانيةٌ كامنةٌ في الحضارة الغربية الحديثة، جعلت “الإبادة الجماعية” طبيعةً لهذه الإنسانية المتوحشة كامنة في السلوك الغربي ضدَّ الآخر، فالحضارة الغربية لديها استعدادٌ للتخلَّص من الإنسان غير المرغوب فيه عن طريق إبادته بشكلٍ منظم ومخطط له، وهو ما سجَّله التاريخ المعاصر عن الدول الغربية -التي تزعم الإنسانية- بقيامها بفظاعاتٍ مروِّعة ضدَّ الشعوب التي احتلتها، ولا تزال إلى الآن تحمل هذا الفكر الاستعماري بدعمها للديكتاتوريات وللكيان الصهيوني، ومشاركاتها في المجازر ضدَّ الإنسانية، مع عدم اعترافها واعتذارها وتعويضها عن هذه الجرائم الموثَّقة في سِجلّها الأسود.

إن هذه الثقافة المتوحِّشة في السلوك الغربي يرجع إلى ظهور النزعة الإبادية، وهي الرؤية الغربية الحديثة للكون، وهي رؤية مادية تعود إلى عصر النهضة في الغرب، وقد فرضت هيمنتها حتى أصبحت النموذج التفسيري الحاكم، وقد بدأت بمرحلةٍ إنسانية، وضعت الإنسان في مركز الكون، وتبنَّت منظومات أخلاقية مطلقة، باعتباره يختلف عن المادة والطبيعة في معياريته ومرجعيته وغائيته الإنسانية المستقلة (وهي العلمانية الجزئية)، إلا أنَّ هذه الرؤية انحدرت إلى نسقٍ ماديٍّ، ساوى بين الإنسان والمادة (الطبيعة)، بفصال النشاط الإنساني (السياسي والاقتصادي والاجتماعي) عن المعيارية والقيمية والإنسانية، إلى أن فقد الإنسان مركزيته وأسبقيته عن المادة والطبيعة، وأصبح جزءًا لا يتجزأ عنها (وهي العلمانية الشاملة)، فظهرت الأخلاق النفعية المادية التي تُعفي الإنسان الغربي من المسؤولية الأخلاقية.

ولذلك فقد تحرَّر الإنسان الغربي من مفهوم “الإنسانية جمعاء” و”صالح الإنسانية” و”القيم المطلقة” كالعدل والمساواة بين البشرية، وجعل من نفسه المركز والمطلق والمنفصل تمامًا عن القيم الإنسانية العامة، وأصبح هو نفسه تجسيدًا لقانون الطبيعة، ومن ثمّة من حقِّه أن يحوِّل شعوب الأرض إلى مجرد وسائل مادية خادمة، فتحوَّلت الإنسانية الغربية إلى إمبريالية وأداتية عنصرية، وأنَّ مَن يملك القوة له الحقُّ في توظيف الآخرين لخدمته، موظِّفًا أحدث ما توصَّلت إليه المناهج العلمية والوسائل التكنولوجية والتقنية، متجرِّدًا من كل القيم والأخلاق والعواطف، فالإنسان مجرد آلة ووسيلة، وهذا ما انتهت إليه معالم المشروع الإمبريالي الغربي، والنظرية العِرْقية الغربية.

لقد انتهى علم الاجتماع الغربي إلى وصف بعض الجوانب السلبية للحداثة الغربية، بأنها كلَّها تفيد تهميش وتفكيك وتراجع وغياب البُعد الإنساني والأخلاقي لصالح ما هو غير إنساني ومحايد ومتشيِّء، بإزاحة الإنسان عن المركز، ونزع القداسة عنه، وأنه مجرد مادة لا حرمة له، وتجريده من جميع خصائصه الإنسانية، وهي قمة “العلمانية الشاملة” و”التفكيك الكامل للإنسان” و”نهاية التاريخ” له.

يواصل “المسيري” تحليله للتشكيل الغربي ونظرته للإنسانية، فيقول: لقد تحوَّل الإنسان الغربي إلى “سوبرمان” مطلق، له حقوق تتجاوز الخير والشر، ومن أهمها حقّ الاستيلاء على العالم، وتحويله إلى مجرد مجالٍ حيويٍّ لحركته ونشاطه، وتحويله إلى مادةٍ خام (طبيعية وبشرية) استعمالية، ليست لها علاقة مقدَّسة بأي قيمة معيارية وأخلاقية مطلقة.

التاريخ لا يكذب على الإنسانية عندما يحدِّثنا عن إبادة السكان الأصليين في استراليا على يد الأوروبيين، واعتبارهم مجرد “فائضٍ بشري انثروبولوجي فقط”، وعن عدد الأفارقة (13 مليونًا) الذين تمَّ استعبادهم وتهجيرهم للخدمة في أمريكا، وعن الإبادة الجماعية التي تعرَّض لها المسلمون الأندلسيون على يد “محاكم التفتيش”، أداة الحضارة الغربية في أوروبا.

إنَّ أولى الإيديولوجيات الإمبريالية الإبادية هي عقيدة البيض (البريطانيين) في وطنهم الجديد: أمريكا، والتي كانت تغطيها ديباجةٌ دينيةٌ عنصريةٌ متطرفة وكثيفة، سمَّوا هذا الوطن: “صهيون الجديدة”، وأنهم كمستوطنين في “أرضٍ بلا شعب” يعتبرون أنفسهم “عبرانيين”، أبادوا بالقتل المباشر السكان الأصليين (الهنود) ككنعانيين، وهي مصطلحات توراتية إبادية، تتنافى مع القيم المسيحية المطلقة (المحبة والإخاء)، وقد استمرت هذه التقاليد الغربية الإبادية بعد استقلال أمريكا سنة 1779م، ووصلت إلى ذروة الإبادة وثمرتها النهائية النتنة سنة 1890م، بإبادة نصف مليون من أصل 6.5 مليون نسمة من السكان الأصليين، وأنَّ الدراسات أثبتت أنَّ عدد الأوروبيين الذين لهم علاقة بعمليات التطهير العرقي والإبادة داخل أوروبا نحو 100 مليون من البشر، وأنَّ هذا العدد مضاعفٌ في عمليات القمع والإبادة الاستعمارية في إفريقيا وغيرها، مثل: الكونغو وفلسطين والجزائر واليابان وفيتنام.. وغيرها.

إنَّ الإنسانية المتوحِّشة والإبادة الجماعية هي الثقافة المتجذرة والسلوك السائد في الممارسة الغربية مع الآخر، وهي تضرب بجذورها في الحضارة الغربية الحديثة، وهي ليست مقصورة على النازيين، بل تشكل مرجعيةً فكريةً وسلوكية لدى دول الحلفاء بقيادة أمريكا.

إنَّ ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تطور تكنولوجي وتفوق تقني ورقيّ سياسي ونمو اقتصادي ورفاه اجتماعي لم يستطع بكثافته تغطية الوجه الحقيقي لهذه الإنسانية الغربية المتوحشة، والتي غرقت في الدموية المفرطة والعنصرية المقيتة التي ترجمت استعلاء الإنسان الأبيض.

إنَّ التاريخ لا يكذب على الإنسانية عندما يحدِّثنا عن إبادة السكان الأصليين في استراليا على يد الأوروبيين، واعتبارهم مجرد “فائضٍ بشري انثروبولوجي فقط”، وعن عدد الأفارقة (13 مليونًا) الذين تمَّ استعبادهم وتهجيرهم للخدمة في أمريكا، وعن الإبادة الجماعية التي تعرَّض لها المسلمون الأندلسيون على يد “محاكم التفتيش”، أداة الحضارة الغربية في أوروبا.

لم تتورَّط “الحضارة الغربية” في الممارسة الإبادية المادية فقط، بل مارست الإبادة الثقافية والحضارية لغيرها، عبر تلك العقلية الإلغائية للآخر، بالإصرار على تفوُّق “الإنسان الأبيض”، وذلك من خلال مخططات خطيرة، والتي لا تزال مستمرةً إلى الآن، بطرقٍ وأشكالٍ مختلفة، وهي: العَلْمنة والعولمة والتغريب، بالحمولة الثقافية من منظورٍ فلسفي غربي خبيث، بغرض التشويه والتضليل والمسخ الثقافي والاستيلاب الحضاري والاعتداء على الخصوصية الدينية والاجتماعية للشعوب الأخرى.

وعبر الاحتلال والعدوان والإبادة: وهو الوجه الحقيقي للغرب المتوحِّش في تعامله مع الغير، والذي لا يزال يمارسه إلى اليوم في أبشع صوره، والصورة الصارخة في وجه العالم: ما يقع في فلسطين منذ أكثر من 76 سنة، وخلال هذه الحرب المجنونة الأخيرة على قطاع غزة منذ أكثر من 07 أشهر، عبر تحالف (الصهيونية– المسيحية) الذي تقوده المؤسَّسية الأمريكية، مهما اختلفت إداراتها المتعاقبة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!