الرأي

الفَرْقَدُ

كلمة “الفرقد” التي اتخذتُها عنوانا لعمود هذا اليوم لها عدة معان تتراوح بين السماء، والأرض، والحيوان..

فهي تطلق في السماء على نجم (أو نجمين) بالقرب من القطب الشمالي، ويهتدي به (أو بهما) السُّفّار في ظلمات البر والبحر.. ويقال إن هذا النجم (النجمين) لا يغرب. وقد قال الشاعر إيليا أبو ماضي مخاطبا الإنسان المتعجرف:

يا أخي، لا تمل بوجهك عني    ما أنا فحمة ولا أنت فرقد

وهي تطلق على نوع من الأرض يتميز بالانبساط والصلابة..

كما تطلق في عالم الحيوان على ولد البقرة الوحشية خصوصا.. وجمع هذه الكلمة “فراقد”.. (انظر: تاج العروس، لمحمد مرتضى الزبيدي).

وأما “فرقدُنا” فما هو نجم في السماء، ولا هو أرض صلبة مستوية، ولا هو ابن بقرة؛ ولكنه إنسان فيه ما في النجم من علو وضياء، وفيه ما في الأرض من صلابة، وفيه ما في ابن البقرة من القوة والتضحية.

إنه إنسان كالناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لم يحل الله بينه وبين قلبه، فكان متأجّج المشاعر نحو دينه الإسلامي القويم، ونحو وطنه الجزائر التي لم يخلق مثلها في البلاد..

إن مشاعر “فرقدنا” ليست مشاعر سلبية يناجي بها نفسه في هدأة الليل، أو في المهجور من الأرض، حيث لا سميع من الإنس ولا بصير؛ ولكنه يجاهر بها، ويعبر عنها بلسانين، العربي لسان قومه، والفرنسي لسان عدوه، وهدفه من ذلك هو أن ينقل مشاعره الحيّة تلك إلى بني قومه ليستيقظوا من نومهم، وليفيقوا من غفلتهم، وليتحركوا من ركودهم، مخاطبا كل واحد منهم بقوله: “قم بواجبك ولا عليك”، مؤكدا لهم أن “الحقوق تؤخذ ولا تعطى”، لأن الفص لا يطلب من اللص، وأنه لا قياس مع النص، وأنه إذا كان لا مفر من الموت، إذ لم يجعل الله – عز وجل- لبشر الخلد؛ فإن “الموت يستطاب في سبيل الوطن والدين”.

إن “الفرقد” هو مواطن جزائري جاء إلى هذه الحياة في سنة 1905 بمدينة غرداية، وفيها بدأ دراسته.. ثم توجه تلقاء تونس ولم يمكث فيها كثيرا فعاد إلى الجزائر، والتحق بثانوية “بوجو” (الأمير عبد القادر حاليا)، ثم طرد منها.

شاهد بعينه، ولمس بيده ظلم الاستعمار الفرنسي ووحشيته وصليبيته فآلى على نفسه أن يكون “محامي الأمة”، وأبى أن يكون لنفسه ولأسرته؛ وهو لا يريد من وراء ذلك شهرة، ولا “زعامة” ولا “رئاسة”؛ وإنما يبغي خدمة دينه والدفاع عن شعبه، وتحرير وطنه، وطرد عدوه.. وكانت وسيلته في ذلك فكر أصيل جوّال، وعزم شديد صوّال، وقلم عنيد سيّال.. فـ “أقام وأقعد وحير الاستعمار”، وفضح خبث أولئك المنصرين النصارى الذين يتمظهرون بالطيبة والرحمة، وما هم إلا كالحيات رطب ملمسها زعاف سمها.. فكتب عنهم مقالات كشفت غايتهم الخبيثة، وهي سرقة عقول الجزائريين وقلوبهم، كما سرق بنو جلدتهم ديار الجزائريين وحقولهم..

وكان جزاء “الفرقد” الطرد من الثانوية، ومنعه من إجراء امتحان البكالوريا في القائمة الحرة، وإلقاؤه في غياهب السجن، ثم نفيه لمدة أربع سنوات إلى كل من بني عباس وتيمي أدغاغ في أقصى الصحراء.. بهدف “الضغط على نفسية “الفرقد” التي تأبى إلا أن تعيش حرة ولو كلف ذلك الطلوع إلى المشنقة”، متمثلا قول الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت    إنما الميت ميت الأحياء

هذا “الفرقد” الذي يأبى أن يخبو نوره، أو أن ينسى اسمه، أو أن ينخفض ذكره، أو أن يمحى أثره هو سليمان بن يحي بوجناح، وهو صاحب كتيب صغير الحجم عظيم القيمة اسمه “كتاب الفرقد”.

لقد أبرّ اللّه – عز وجل- عبده “الفرقد” فأراه آيته الكبرى بطرد فرنسا من جنة الدنيا، فشفى صدره، وأفرح قلبه، وندعو اللّه – الكريم- أن يكرم عبده “الفرقد” ويرضى عنه، ويرضيه. انتقلت نفس “الفرقد” المطمئنة إلى ربها – راضية مرضية- في عام 1984.

مقالات ذات صلة