الجزائر
الفضل في إطفاء الفتنة يعود إلى حنكة المجاهد بلقاسم يازيد

القصة الكاملة لتمرُّد حسين آيت أحمد ومحند أولحاج و5 آلاف من المجاهدين

الشروق أونلاين
  • 45467
  • 50
الشروق
المجاهد بلقاسم يازيد

لو كان الناس يُكافَؤون بما قدّموه للجزائر من تضحيات، لحصل المجاهد بلقاسم يازيد، المعروف في جيش التحرير الوطني باسم “الموسطاش” على أعلى الأوسمة والنياشين. والسبب لأنّ هذا الرجل الذي وُلد سنة 1928 ببلدية حربيل بولاية سطيف، جنّب الجزائر والجزائريين شلالات من الدماء، كان من الممكن أن تسيل سنوات قليلة عقب الاستقلال. لكن هذا المجاهد الذي جنّب الجزائريين ويلات الفتنة، يعاني اليوم في صمت لأنه محروم من أيّ راتب يعيش منه، وهو يطالب بإعادة دراسة ملفه من طرف وزير المجاهدين أو وزير الدفاع.

.

فرنسا تهتدي إلى فكرة الجنود الفارّين لاختراق الثورة

يقول بلقاسم يازيد “في 1958 جاء هواري بومدين إلى تونس، واتّصل بالرئيس لحبيب بورقيبة، وكنتُ يومها أُقيم بهذا البلد الشقيق وأشغل منصب محافظ سياسي لجبهة التحرير الوطني، ومنحنا 4 مراكز للتدريب، وصرت بعدها رئيس فرقة في الفيلق 19 الذي كان مسؤوله في ذلك الوقت سليم سعدي. التحقنا بجبل عين الزانة في تونس وكان به عدد من المسؤولين العسكريين الآخرين: وهم عبد الرحمن بن سالم، عبد الغني، العربي بلخير، عبد القادر شابو والهادي بلحسين.

في سنة 1959 أمرني مسؤولي المباشر عبد الرحمن بن سالم رفقة آخرين بالتوجُّه إلى منطقة عين الدفلى بالأراضي التونسية. وفي إحدى الليالي اتَّجهتُ أنا وفرقتي إلى منطقة عين البيضاء أين اكتشفنا وجود مركز جديد به 7 مدافع، فأخبرت بن سالم على الفور، فتحقّق من الأمر وأخبر بدوره هواري بومدين بالموضوع، فقام هذا الأخير بزيارة لنا وأمرنا بعدم ضرب الموقع، لأنّ الدبابات تابعة للحلف الأطلسي وهي في انتظار تحويلها لصالح الجيش الفرنسي، وأمرنا بالاكتفاء بالردّ في حال ما تعرضنا لأيّ هجوم. في نفس السنة أيقنت فرنسا بأنّ الثورة الجزائرية تحقق نجاحات باهرة، ولذلك فكرت في تغيير الاستراتيجية، من هنا جاءت فكرة اختراق الثورة بواسطة جنود فارّين من الجيش الفرنسي.

وبالفعل جاءنا جندي هارب اسمه صالح، وطلب الانضمام إلى فرقتنا، فأخبرتُ بن سالم بالأمر، ولما تحدث معه، اكتشف بأنه ضابط برتبة رائد، وليس جنديا مثلما ادّعى، وأمرني بضرورة حراسته بشكل جيّد، ما دفعني إلى تكليف اثنين من جنودي بالموضوع. وبعد المراقبة اللّصيقة، أخبرني الجنديان بأنّه يخرج خلسة ليستعمل مصباحا يقوم بتوجيهه لمركز عين البيضاء. وسرعان ما اكتشف هذا الرائد الهارب أنّه مراقب، ففرَّ بجلده. ولما أخبرتُ بن سالم بهروبه، قال لي سيضربوننا، لذلك عليكم أن تتجنّبوا المشي مع بعض، وكنّا في المجموع 30 مجاهدا.

وبعد ثمانية أيام بالضبط، شنّ الجيش الفرنسي هجوما علينا، وسقط عدد من الشهداء لا أذكر بالضبط عددهم، وخلال هذا الهجوم فقد محمد عطايلية يده، لأنّه كان يتبع فيلقًا ينتشر بالقرب من المنطقة التي كنَّا بها. في هذا الهجوم سقطت علينا ستُّ قنابل، ثلاثٌ منها انفجرت، والأخرى لم تنفجر. ومن الحوادث الغريبة التي وقعت لي، كنتُ كلّما بعثتُ جنديا إلى مكان الحراسة، الذي يقع على علو 800 متر، فلا يعود بعد انتهاء مداومته، حدث هذا ثلاث مرات، ولما تفقّدنا مكان الحراسة وجدنا الجنود الثلاثة في حالة إغماء، وفي الحال تمّ تحويلهم إلى تونس للعلاج، ولم نكن نعلم يومها سبب إغمائهم.

وبعد الفحوصات التي أُجريت عليهم اتّضح للأطباء أنَّهم راحوا ضحية استنشاقهم للغازات. وبهدف التحقُّق من الموضوع، طلب الأطباء الأوربيون أن يُرافقهم طبيب جبهة التحرير الدكتور نقاش، لزيارة المكان. وعند مشاهدتهم أوراق الأشجار وقد تبدّل لونُها، بحثنا وسط الحشائش عن القنابل الثلاثة فوجدناها، وكانت أمريكية الصنع تزن الواحدة منها 50 كلغ. عندها وُجّهت لنا تعليمات بعدم الاقتراب من هذا المكان لمدة 40 يوما. وبسبب استنشاقي لهذه الغازات، ما زالت تنتابني نوبات إغماء إلى حد اليوم.

ولما سمع هواري بومدين بالقصة، جاء إلى المكان وجمع القادة بن سالم، العربي بلخير، سليم سعدي والشاذلي بن جديد، وسألهم إن كان في استطاعتهم ضرب هذا المركز بالمدفعية، فعبَّر الشاذلي عن استعداده لذلك بواسطة مدفعي هاون، وهو ما تمَّ فعلا.

.

قصة تمرّد حسين آيت أحمد ومحند أولحاج و5 آلاف مجاهد

عندما تم توقيف القتال دخلت أنا وفرقتي إلى قسنطينة، وكان يومها العربي الميلي قائدا للناحية، وتحت تأثير المرض الذي كان يُعاني منه، طلب مني تعويضه في المنصب كقائد للناحية، وبعد مجيء بومدين بعث الشاذلي بن جديد مرفوقا برسالة لتسلم المهام، وأمرني بالتحول إلى الناحية الأولى بالبليدة أين كان سعيد عبيد يشغل منصب قائد للناحية، وتسلمت أنا مهام قيادة الفيلق 15.

ويومها سألني سعيد عبيد فيما إن كنت أعلم ما سيحدث؟ وسرعان ما بدّد حيرتي لما أجاب بأنّ ثورة ثانية ستشتعل. قلتُ كيف؟ قال محند أولحاج وحسين آيت أحمد فرّا برفقة 5 آلاف مجاهد إلى الجبل، وهما لا يعترفان لا بأحمد بن بلة ولا بهواري بومدين، وكان ذلك بين سنتي 1964 و1965، لا أذكر التاريخ بالتحديد، فاقترحتُ أن أتولّى مهمّة إصلاح الموضوع، وإقناع هؤلاء ومن معهما من المجاهدين الفارّين بالعودة والعدول عن هذا العصيان. فخرجتُ بمعيّة سعيد عبيد من المكتب، وأمرني بالتوجُّه أنا وفرقتي نحو أكبر دشرة في القبائل. عندما وصلنا أخرج أهالي الدشرة حوالي 200 امرأة لاستقبالي، وكنّ يُردّدن شعار “سبع سنين بركات” وبعضهن الآخر يردّد “ديرو النيف الفرنسيون خرجوا وتريدون محاربة بعضكم..”.

فأخبرناهم أننا لم نأت من أجل القتال، ما جعلهن يكشفن لنا أنه تمّ تدبير كمين للإيقاع بنا، وعرفتُ أنّ المسؤول عن ذلك اسمه إسماعيل أوبلعيد. فأرسلت إليهم من أجل المجيء للتحاور.

وعندما عادت النسوةُ أخبرننا أنّ الحياء جعلهم لا يأتون إلينا، والسبب أنّ أكثر من 300 من هؤلاء المجاهدين عملوا معي وكنت قائدهم. هذا الأمر جعلني أقترح فكرة أن أُرسل في طلب 5 شيوخ لإبلاغهم أهداف مجيئنا، وهو ما تمّ فعلا، فذهب شيوخ القرية إلى الطرف الآخر، وقالوا لهم يجب أن تتفاهموا، وإلا فاذهبوا عنا جميعا، ولما عاد رُسلنا أخبرونا بأنّ هؤلاء المتمردين يقترحون علينا أن نأخذ طريق البايلك بعيدا عن الدشرة، وأن تكون المسافة بين كل واحد منا عشرة أمتار، وأن نُطلق النار في الهواء، وعندما دخلنا مركزهم، أمرتُ جنودي بعدم الخروج خوفًا من أن تحدث انزلاقات.

.

شيوخ جمعية العلماء يبكون لمنع استعمال اللُّغة العربية

وفي صبيحة أحد الأيام خرجتُ، فإذا بي ألتقي بشيخين من جمعية العلماء المسلمين درسا بجامع الزيتونة بتونس، أحدهما يسمى لخضر بوجملين والثاني لا أعرف اسمه، وكانا يبكيان فاستغربتُ الأمر ما جعلني أسألهما عن سبب البكاء، فأجابا بأنّ مستقبلهما ضاع، لأنّ محند أولحاج وحسين آيت أحمد منعا استعمال اللغة العربية، وأجبرا الناس على استعمال الأمازيغية فقط. فطلبتُ مقابلة رئيس البلدية فعلمتُ أنّه فرَّ، فطلبتُ مقابلة كاتب البلدية والتقيتُ به وأمرته بأن يطلب من السكان أن يفتحُوا محالّهم الأمر الذي تمَّ بالفعل. بعد ثلاثة أيام أرسل أحمد بن شريف قوات من الدرك الوطني لتجريد أصحاب السيارات من وثائقهم، ما جعل هؤلاء يرفعون إليّ شكاوى بالأمر لأنّ سياراتهم كانت تُشكّل بالنسبة لهم وسيلة لكسب القوت، فتدخلتُ وأمرتُ رجال الدرك بإعادة الوثائق إلى أصحابها ومغادرة القرية.

بعدها جاءني إسماعيل أوبلعيد واقترح عليّ مواصلة الحوار مع المجموعة المتبقية من المجاهدين الفارّين، فاقترحتُ من جهتي تشكيل لجنة خاصة يُمثل فيها إسماعيل أوبلعيد، محند أولحاج، ويمثل بومدين في هذه اللَّجنة كلا من بوعشة وعمار مغرة وهما نائبين لي، وأن أكون أنا المسؤول عن تلك اللَّجنة. فقبل الجميع اقتراحي، وبحثنا لمدة 15 يوما عن الفارّين، فلم نجدهم. وفي أحد الأيام سمعنا بأنهم يتحصَّنون في دشرة اسمها تيزي، فأرسلت إليهم مجموعة للحوار، ولما رأوهم استقبلوهم استقبال الأصدقاء، وخلال الحديث معهم أخبرتهم المجموعة التي أرسلتُها، بأنّ هواري بومدين تنقّل لمحاربة المغرب والقضاء على الفتنة التي كانت تستهدف الاستيلاء على الصحراء الجزائرية، ما جعل هؤلاء المتمردين يؤكدون أن ليس لهم أيّ مشكل مع بومدين، وعقدوا العزم على الالتحاق ببومدين للقضاء على هذه الفتنة.

ولما سمعت فرنسا، التي كان يهمُّها أن يتطوّر الخلاف بين أولحاج وآيت أحمد من جهة وبومدين وبن بلة من جهة أخرى، بأنّ الطرفين اتَّفقا على محاربة الملك المغربي، وأنّ ملك المغرب توقف في نصف الطريق إلى الجزائر، سمع إسماعيل أوبلعيد هذه الأخبار عن طريق الإذاعة، فاتّصل بي ليُخبرني بما سمع فاستغربتُ أن تنتقل أخبار هذا الاتفاق إلى السلطات الفرنسية بهذه السرعة. وبعد بحث اكتشفتُ أنّ جهاز إرسال عسكري كان يعلو إحدى الأديرة ببلدية “فور ناسيونال”، فذهبتُ إلى ذلك الدير أين وجدتُ مجموعة من الآباء البيض وعددهم لا يتجاوز التسعة، فسألتهم أن أدخل إحدى غرف الدير، وكانت مغلقة بإحكام، فرفضوا بحجة أنهم لا يملكون مفاتيحها، وأنّ المسؤول عنها يسكن بالجزائر العاصمة، كسرتُ باب الغرفة ودخلتُ، فوجدتُ هاتف مخابرات عسكرية، فعرفتُ أنّ فرنسا ما تزال بيننا ولم تخرج نهائيا.

حينها أعطيتُ هؤلاء الآباء البيض مهلة يوم واحد لمغادرة المكان، وأخفيتُ الأمر عن جنودي مخافة أن يقتلوهم. بعد شهر أو شهرين من هذه الحادثة، استدعاني سعيد عبيد من أجل العودة إلى الناحية العسكرية الأولى بالبليدة، وكان يومها مصطفى بلوصيف وزيرا للدفاع، ولما عدتُ إلى البليدة نصَّبني سعيد عبيد قائدا للناحية الأولى مكافأة لي على نجاحي في مهمَّة الحوار مع المنشقّين، بقيتُ هناك 15 يوما وهذا سنة 1965، ثم سقطتُ مغمًى عليَّ تحت تأثير الغاز الذي استنشقته لما كنت في تونس، ولحدّ اليوم ما زالت تنتابني نوبات إغماء، إضافة إلى أنّ ذاكرتي تأثرت بذلك.

مقالات ذات صلة