-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

القيادة تضحية

القيادة تضحية

إن قيادة الأمم والهيآت ورئاسة الشعوب والجماعات عبء كبير وحِمل ثقيل، وقد تتطلب التضحية “التي هي أول شروط الرئاسة (1)”. فقيادة الأمم ورئاسة الشعوب هي عند ذوي النهى وأرباب الحِجَى، وأولى العزم مغارم قبل أن تكون مغانم، بل يمكن أن لا يكون فيها مغنم واحد، ومن ذلك أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز لما أتاه اليقين لم يترك إلا سبعة عشر دينارا، اشتري له كفن بخمسة دنانير، وموضع قبره بدينارين، وقُسّم الباقي على أبنائه، وكانوا أحد عشر.

  • لقد كان العرب ـ عندما كانوا عربا ـ يرون الرئاسة أمرا شاقا، وعقبة كأداء، فقال قائل منهم:
  •  
  • فإن رئاسة الأقوام فاعلم
  •  
  •        لها صُعدَاء مطلعها طويل
  •  
  • وقال الآخر:
  •  
  • إن على كل رئيس حقا
  •  
  •        أن يخضِبَ الصّعْدَة أو تنْدَقّا
  •  
  • أي أن على كل رئيس قوم أن يخضِبَ الرّمح إثْخَانا في الأعداء، أو يندقّ هذا الرمح وينكسر وهو يدافع عن قومه، ويذود عن حوضه؛ ولكن قادة العرب في هذا الزمان هم على عكس الصورة التي رسمها الشاعران، فالقيادة عندهم جمعُ مال وعدّه، واهتمام بالمظاهر وانشغال بالتوافه، كأنهم هم المعنيون بقول الشاعر:
  •  
  • أصواتهم مثل أصوات النساء وهم
  • لكنهم يملأون الجو مرجلة
  • كم قلموا إصبعا، كم دهنوا شنبا
  • إن هبّت الريح يوما حولهم جفلوا
  • فلا الأسِنّة تثنيهم ولا الكلل
  • كم غيّروا ربطة، كم بدلة بدّلوا
  •  
  • لقد حَسِبَتْ شعوبُنا هؤلاء القادة شيئا مذكورا، وظنّتهم “كأسود الثرى” لما رأت من عسفهم، وذاقت من شريهم (❊)، ونالت من جورهم، وتعللت بأنهم سيصدّون عنها العدى، وسيحمون الذمار؛ حتى إذا جاءت هذه المحنة التي نكب بها أهلنا الأعزة في غزة لم تحس منهم من أحد، ولم تسمع لهم ركزا، كأنهم أصيبوا بشلل فلا حركة، وكأنهم ابتلعوا ألسنتهم فلا كلمة، وآمنوا أن إسرائيل هي عزرائيل.
  • تمنيتُ لو أن الله ـ عز وجل ـ أكرمني، فآتاني من لدنه علما لأعلم من أي شيء خُلق هؤلاء القادة، الذين يتشبثون بالكراسي من غير أن يؤدوا ضريبتها من الهمم العالية، والذمم السامية، والمروءة..
  • إنني أكاد أقسم بمن خلق هذه النماذج “البشرية” أنهم لا يملكون إحساسا؛ إذ لو كان لهم ولو مثقال ذرة من إحساس لنفروا خفافا وثِقالا من أجل أولئك المستضعفين من النساء والولدان في غزة، الذين تنزل الصواعق عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم.
  • وأكاد أقسم أن من يُرضينا منهم بكلمة، أو يستبْلِهُنا بحركة، إخمادا لثورة في صدورنا، وتسكينا لغضب في نفوسنا؛ إذا خلوا إلى أسيادهم الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين قالوا لهم: إنّا معكم، إنما نحن مستهزئون.
  • عجيب أمر هؤلاء “القادة”، اشتعلت رؤوسهم شيبا ـ وإن خضبوها بالسواد تلبيسا على الناس، وتجلدا للشامتين ـ ووهنت عظامهم، وتخدّدت وجوههم، واحدَودَبَتْ ظهورهم، وتقوّست أرجلهم، وارتعشت أيديهم، حتى صاروا كما يقول المثل “تعقلهم شعرة، وتحجزهم بعرة”؛ ومع ذلك تجدهم أكثر تشبّثا بالكراسي، وافتِتانا بها، وأحرص على حياة، ولو في ذلة وصغار، لا للإكثار من الحسنات، فأكثرهم لا يدخلون المساجد إلا في المناسبات؛ ولكن لهثا وراء اللذات، وجريا وراء الشهوات، حتى إنهم كذبوا بذلك حكمة زهير بن أبي سلمى القائلة:
  •  
  • سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش
  •  
  •                  ثمانين حولا ـ لا أبا لك ـ يسأم
  •  
  • أية قيمة بقيت لهؤلاء الحكام بعدما فقدُوا هيبة الأعداء، واحترام الأصدقاء؟
  • لو كان حكامنا على شيء، وكانوا ذوي آراء سديدة، وأفكار رشيدة ـ كما يزعمون ويدعون ـ لما قبلوا الإهانات التي قوبِلوا بها في “مجلس الأمن” وفي “مجلس حقوق الإنسان”، ومن أصدقائهم الأمريكيين والأوربيين.
  • لم نطلب منهم أن يخوضوا حربا ضد إسرائيل؛ لأنهم ليسوا أهلا لذلك؛ ولكن كنّا نودّ منهم ـ حِفظا لأنفسهم في أعيننا وأعين الناس أجمعين ـ أن يهددوا ولو بالخروج من هذه المجالس التي أهينوا فيها، وآخرها هذا الجُحْر المتوسطي الذي أدخلهم فيه حبيبُهم ساركوزي، وراح يحضنهم، مُربتا على ظهورهم، ساخرا من بلاهتهم.
  • اسمحوا لنا ـ أيها القادة ـ أن نُصارحكم بأننا كرهنا صوركم، ومللنا كلامكم، لأنكم لم تنفعونا لا في حرب ولا في سلم، وظننّا أنكم ستكرموننا فأهنتمونا، وأنكم ستطعموننا فأجعتمونا، وأنكم ستُؤمّنوننا فأرعبتمونا.. أفبعد ذلك تطمعون أن نؤمن لكم، ونحبكم، وندعو لكم؟ كلا! وما يفعل ذلك إلا المنافقون، المتملقون، الآكلون من حلال ومن حرام، المستفيدون من وجودكم.
  • لقد رأيت أحد هؤلاء “القادة” يتسلم أوراق ستة عشر سفيرا، الواحد تلو الآخر، فقلت في نفسي: لابد أنه سيحدثهم ـ بهذه المناسبة ـ عن المحرقة التي تجري في غزة، وسيطلب منهم أن ينقلوا احتجاج “جلالته” إلى قادتهم، ليعملوا على إنهاء تلك المحرقة، فإذا بـ”جلالته” يقول لهم ـ ولعنة الله عليّ إن كنتُ عليه مُتقوّلاـ: “الجوّ فيجميل في هذه الأيام، وفي الصيف أظنه حار“..
  •  
  • أليس صاحبالجلالةهذا وأمثاله هم الذين عَناهُم حكيم المعرة بقوله:
  • يسوسون الأنام بغير عقل
  • فأفّ من الحياة وأفّ مني
  • وينفذ أمرهم فيقال ساسة
  • ومن زمن سياسته خساسة
  •  
  • لقد رُوي أن الأمريكيين طلبوا من جورج واشنطن أن يرأس بلادهم، فألقى معاذيره، فلما ألحوا عليه استشار أمه، فقالت له: لماذا ترفض ما عرضته عليك أمّتُك من غير ترغيب منك ولا ترهيب؟ فأجابها: لستُ أهلا للحكم، فهو يحتاج إلى علم ودراية، وأنا ليس لي منهما ما يكفي. فقالت له تلك الأم الحكيمة: لا، بل الحكم ـ يا ولدي ـ يحتاج إلى أخلاق، فإن كان مايزال لديك بعضُ ما غرسته فيك وما ربيتُك عليه فاقبل (2).
  • إن أمتنا ليست عقيما، فقد أنجبت رجالا رفعوا ذكرها، وأغلوا قيمتها، وأعلوا مكانتها، وإذا كانت اليوم تكابد وتعاني من النطيحة والمترديّة فسيخرج الله ـ العلي القدير ـ من بين أصلاب وترائب أبنائها وبناتها من يذهب عنها الحزن، ويزيل عنها الشجن، ويثأر لشرفها، ولحرائرها، ويعيدها سيرتها الأولى.
  •  
  • 1) آثار الإمام ابن باديس ج4. ص 191.
  • (❊) الشّرْيُ هو الحنظل. واحدته شَرْيَة. ويقال لفلانأرْي وشَرْيأي عسل وحنظل.
  • 2) محمد أديب كلكل: الأنيس في الوحدة. ص 172.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!