الرأي

المدرسة.. قبل الدستور

محمد سليم قلالة
  • 3037
  • 5

الوقت الكبير الذي نضيّعه في الحديث عن الدستور التوافقي، وعن الحكومة، وعن الانتخابات القادمة، وعن السياسة بشكل عام، لو نُخصّصه للتفكير في المدرسة ومستقبل التعليم، نكون قد أخذنا بحق بفقه الأولويات، ونكون بحق قد أدرجنا أنفسنا ضمن الرؤية التوافقية التي تسبق الدستور التوافقي.. ينبغي أن نخرج من حالة التفكير بمنطق رد الفعل إلى حالة التفكير بالاستباق والاستحداث للفعل، وتلك هي النظرة الاستشرافية التي تنقصنا، أي تنقص كل مكونات الدولة الجزائرية من سلطة ومعارضة، يتحمل مسؤولياتها جميع من بيده القرار أو يسعى إلى الوصول إليه…

نتفق جميعا أن العلم هو الأساس في كل شيء، لا المال ولا المادة ولا القوة. ديننا الحنيف علَّمنا ذلك، وقرآننا الكريم مفتاحه الأول كلمة اقرأ. والله سبحانه وتعالى وضع أهل العلم في أعلى المراتب: “شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم”، سورة آل عمران الآية 18.. ورسولنا الكريم  صلى الله عليه وسلم علّمنا “أن طَلَب الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ”. والإمام الشافعي رحمه الله نصحنا بأنه من “من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم”، بل لعل ما قيل في تراثنا من تمجيد للعلم والعلماء هو أكبر مما قيل في أي تراث ثقافي آخر. ومع ذلك فإننا نكاد اليوم نكون من بين الأمم الأكثر تخلفا في العناية به واعتباره الأسبق عند ترتيب الأوليات.

تجدنا نتسابق في الإصلاح السياسي، إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبرلمانية والمحلية كما وأنها مسائل ذات أبعاد استراتيجية (رغم أهميتها) وننسى أنها لن تنفعنا بشيء إذا لم يقم عليها أهل الكفاءة والعلم… نقوم بإضاعة الكثير من الوقت والمال لأجل أن نعيد انتخاب مؤسساتنا السياسية، ولعلنا نكاد نعرف كل صغيرة وكبيرة عنها إلا أننا نتعامل مع المؤسسة التي يُفترض أن تكون الأولى بشيء من اللامبالاة والإهمال.

صحيح إن ميزانية وزارة التربية في بلادنا هي الثانية في العادة بعد وزارة الدفاع الوطني إن لم تكن الأولى، ولكن الميزانية وحدها لا تصنع تربية ولا معلما ولا تلميذا أو طالبا، إذا لم يتم إنفاقها  ضمن رؤية محكمة وأهداف ذات بعد مستقبلي واضح نستبق به المشكلات ونستحدث الحلول بما في ذلك السياسية.

لقد اتفقت الشعوب والحضارات منذ القدم أن التعليم هو أساس البناء وأساس الإصلاح. فالحكيم الصيني كنفوشيوس يقول بأن تنظيم الحياة الوطنية لا يستقيم في آخر المطاف إلا “عن طريق تحقيق المعرفة الحقّة القائمة على تمحيص الأشياء”. والمعلم أفلاطون في الحضارة اليونانية يلخص كل فلسفته في اعتبار الدولة منظومة تعليمية، في إشارة إلى أن أساس الاستقرار في الدولة هو التعليم، والأقدر على مواجهة الصراع القائم بين وظائف النفس وإزالة التناقض في المجتمع  هو المعلم، وأنه إذا صلح تعليم المواطن استطاع حل كافة المشكلات..

وبالرغم من أن الحضارة الغربية قد أعطت الانطباع في فترتها الرومانية أن أساس العظمة هي القوة العسكرية وأساس التفوق هو العتاد والعدة متناسية أنها كانت تستنزف ما بقي من علم  وفلسفة اليونان إلى أن سقطت، بالرغم من هذا فإن الغربيين يتفقون أن منطلق قوتهم هو ذلك العلم الذي ورثوه عن اليونان وعن المسلمين عبر قرطبة وصقلية و طليطلة، ثم طوّروه ونشروه بعد اكتشافهم للطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، وصنعوا منه بداية نهضتهم ثم ثورتهم الصناعية في القرون اللاحقة إلى أن وصلوا إلى ما هم عليه الآن من تفوق وتأكيد بأنه إذا كان هناك من عنصر ينتج الثروة ويصنع القوة ويمكّن من البقاء، فليس سوى المعرفة على أساس أنها وسيلة التمييز بين المجتمعات في القرن الحادي والعشرين على حد تعبير العالم الأمريكي ألفين توفلر في مؤلفيه  الشهيرين: “تحول السلطة” و”إنشاء حضارة جديدة”

أي أن ديننا وتراثنا والتراث الإنساني برمته يتفق على هذه الأولية في البناء الحضاري، وربما لا يحتاج حتى إلى تذكيرٍ منَّا أو من غيرنا. لماذا لا ينعكس ذلك على السياسة التي نعتمد؟ لماذا لا يظهر ذلك ضمن أولوياتنا؟ لماذا كل هذا الضجيج حول الدستور التوافقي ولا حديث عن مستقبل منظومتنا التربوية؟ أليس من الوطنية أكثر أن نتساءل عما يحدث في منظومتنا التربوية قبل أن نتساءل عما يحدث في قصر المرادية والبرلمان؟ أليس من النظرة الاستراتيجية أن ندق ناقوس الخطر حول أساس بناء الدولة: المدرسة والجامعة. ألا نرى أمام أعيننا كيف أننا نسير على غير المسار الصحيح مادامت مدرستنا على هذه الحال؟

صحيح، هناك قرارات مستعجلة يمكن أن نوقف بها النزيف الحاصل في بلادنا، ونوقف بها تسارع وتيرة التوتر في بعض القطاعات، ولكنها تبقى قرارات تكتيكية “تسكينية” وليست من النوع الذي يمكنه أن يحقق التغيير والإصلاح الحقيقيين.

ومن ثم فبدل أن نبقى نتباكى على وضعية هذا القطاع الاستراتيجي، بدل أن نعوض وزيرا بوزير أسوأ منه ليرتكب أخطاء أكبر منه، علينا أن نعترف أن المشكلة في بلادنا ليست في الأشخاص إنما في الرؤية والأولويات والخيارات.. سيبقى القطاع يعاني وتتفاقم مشاكله كما كانت قبل بن بوزيد وكما ستبقى بعد بن غبريط إن لم تسؤ أكثر، إذا لم نتمكن من التحول كوطنيين قبل كل شيء، ومن جميع المشارب الفكرية والسياسية، إلى دعوة واحدة تحمل عنوانا واحدا يقول: المدرسة قبل الدستور، وذلك هو فقط جزء من الرؤية التي ينبغي أن نصوغها من أجل الجزائر. النقاش الحقيقي (البعيد عن المزايدات والنظرة الضيقة والمصالح الشخصية) ينبغي أن يبدأ من هنا، وكفى تلاعبا بمصير بلادنا من خلال التلاعب بمصير الأجيال، بعتبة الدروس أحيانا، وبنسبة النجاح أحيانا أخرى، وبتمكين المعلمين من شهادات مزورة لترقيتهم إلى رتب عليا، والاستجابة لمطالب مادية لنقابات يمكنها أن تهدئ الوضع وتقدم مسكنات لهذا الوزير أو ذاك… لعلّه الوقت المناسب لنقول هذا الكلام بعد الذي حدث السنة الماضية والسنوات التي قبلها، وبعد التدني الذي طال كل المستويات.. بعيدا عن كل رؤية بل حتى عن كل سياسة، بالمعنى الصحيح للكلمة.

مقالات ذات صلة