الجزائر
المهندسة المعمارية عتيقة يوسفي لجواهر الشروق:

المدن التي نعيش فيها لا تتناسب مع تقاليدنا ونحتاج إلى القيام بثورة عمرانية!

أماني أريس
  • 5874
  • 0
ح.م

يتقيد فن العمارة خلافا لكافة الفنون الأخرى، بضرورة خلق توليفة نموذجية بين العاملين؛ الوظيفي والجمالي، وهو ما جعل مسؤولية الفنان المعماري أعظم من مسؤوليات غيره من الفنانين، ورغم ذلك استطاعت المرأة أن تمد يدا طولى في هذا المضمار، وتترك لها بصمة مميزة يتماهى فيها حسها الإبداعي مع الخام المادي.

جواهر الشروق تعمقت أكثر في الموضوع مع المهندسة المعمارية والباحثة عتيقة يوسفي من خلال هذا الحوار.

من هي عتيقة يوسفي؟

مهندسة معمارية، خريجة المدرسة الوطنية  المتعددة التقنيات للهندسة المعمارية والتعمير بالحراش، و معتمدة  بالمجلس الوطني للمهندسين المعماريين الجزائرين منذ سنة 2004، صاحبة مكتب “الحضارة للاستشارات الهندسية” ببلدية بوسماعيل – تيبازة – وباحثة هاوية  في التاريخ الجزائري والتراث، ولي أيضا محاولات في الترجمة والكتابة التقنية.

 إلى أي مدى استطاعت المرأة العربية أن تثبت ذاتها في مجال الهندسة المعمارية؟

 أعتقد أن المرأة العربية قد خاضت أشواطا كبيرة في هذا الميدان، ليس فقط على الصعيد العربي بل العالمي أيضا، وتفوقت حتى على الرجل أحيانا وهنا يمكن أن أطرح كنموذج اسم العراقية زهاء حديد التي غيرت شكل العمارة الحديثة وأصبحت أيقونة في عالم العمارة الغربية.

هل واجهت مشاكل عند اقتحامك لهذا الميدان؟

 إن كنت تقصدين بهذا نظرة المجتمع فاعتقد أن مجتمعنا له ما يكفيه من الأخطاء، والقيود الاعتباطية،  وليس من العقل أن نجاريه فيها، بل بالعكس يجب على المرأة أن تناضل من أجل فرض ذاتها وإبراز مواهبها وكفاءاتها وهو الوضع الطبيعي.

أما باقي المشاكل فأظن أنها نفس المشاكل التي يعاني منها الرجل أيضا، ولعل أكبر ما أتعبنا ولا يزال هو الفوضى العارمة التي تميز الظروف المحيطة بمهنة المهندس المعماري، في غياب النصوص القانونية الصريحة والإجراءات الردعية التي تقف في وجه هذه الفوضى والعشوائية. وأنا أتحدث هنا عن قانون الصفقات العمومية والمسابقات، وعن غياب ميثاق محدد للمهندسين المعماريين الجزائريين يتم من خلاله تحديد المسؤوليات والعقوبات بشكل صريح.

هل تعتبرين الهندسة المعمارية علم له معاييره وهويته، أم هو فن كباقي الفنون يعتمد فيه المهندس على فلسفته وموهبته الشخصية؟

الهندسة المعمارية هي كل ما ذكرتِ مجتمعة.. هي علم تقني جدّا، وفن، وفلسفة، وتاريخ في آن واحد.

وفلسفة المهندس لا تنبع من مزاجيته ولكن من تكوينه الأكاديمي ومن منهجيته في العمل التي يكتسبها من خلال الدراسة والبحث والممارسة، والنتيجة لن تكون مرضية وذات معنى إلا إذا اِلتقى جهد المهندس المعماري بالتكوين الجيد وهنا مربط الفرس.

هل هناك وعي إجتماعي بضرورة الاعتماد على المهندس المعماري في تصميم المنازل والمرافق أم مازالت هناك عشوائية في البناء؟

للأسف لا تزال العشوائية هي السمة الغالبة على محيطنا العمراني، فحتى وإن أجبر القانون أحيانا المواطنين على اللجوء إلى المهندس المعماري، فإن الكثيرين يقدمون على البناء وفق أهوائهم بمجرد الحصول على رخصة.

ثم دعيني أسترسل قليلا في هذه الجزئية، لأقول أن مجتمعنا الجزائري الذي كانت له ثقافته العمرانية، وتقاليده الهندسية قبل سنة 1830 قد  فقدها تماما بعد الاستعمار، دون أن يتمكن من أساليب البناء الحديثة أو قوانين العمارة الغربية التي ورثها بعد الاستقلال، لذلك ما كان يجب أن يطلق له العنان في البناء الذاتي بهذا الشكل، في ظل غياب الرقابة فكانت  النتيجة كارثية، خصوصا إبان العشرية السوداء أين كان الأمن هو المطلب الاجتماعي الأول على حساب كل شئ آخر.

كيف ترين وضعية العمران في مدننا؟ هل حافظت على هويتها العمرانية أم هناك تقويض للهوية العمرانية في  بلادنا؟

إن هذه المراكز الحضرية التي نتكلم عنها اليوم في الأصل ليست هي مدننا التاريخية،  بل مدن استعمارية ورثناها ولكننا إلى اليوم نشعر بالغربة فيها، لأنها لا تتناسب مع ثقافتنا وتقاليدنا وبل ولم تعد حتى تناسب زماننا ولا أعدادنا.

وهذا يفسر لجوء البعض إلى إغلاق الشرفات بأي شيئ متوفر، وذبح كباش العيد في الشرفات، والركن على الرصيف… كان يجب من البداية أن نعيد النظر في كل شيء. وأن نحدث ثورة عمرانية تماما كتلك التي أحدثها المستعمر أول ما وطأت أقدامه أرض الجزائر، لكننا للأسف لم نفعل.. ما فعلناه هو العكس تماما؛ بدل أن نخضعها لشخصيتنا وتقاليدنا حاولنا التأقلم مع هذه المدن فلم نفلح.

على ماذا تعتمدين في وضع تصميماتك العمرانية؟ هل تستوحين ذلك من مهندسين مشهورين أم لك بصمتك الخاصة؟

يتوقف الشكل النهائي للتصميم على عوامل كثيرة منها: المساحة، وطبيعة المشروع، ورغبة الزبون والبرنامج المساحي، وسعر الكلفة والمواد المستعملة.

وتولد الممارسة بصمة خاصة بكل مهندس، هي أشبه بالتوقيع تصاحبه في كل أعماله رغم تأثره بالمهندسين العالميين المشهورين أو التيارات الفنية والمدارس الهندسية العالمية.. وفي كل الأحوال رضى الزبون وشعوره بالارتياح في نهاية التصميم هو المعيار الأكبر والمرجح للشكل النهائي.

هل تعتقدين أن الإنسان يبني بطريقة جميلة عندما يكون منسجما مع طبيعته واِنتمائه وبيئته؟

أكيد! الإنسان المتصالح مع  نفسه يعمل على نقل هدوئه الداخلي و جماليته الروحية إلى الأشياء من حوله، عكس الإنسان المريض الفوضوي الذي ينقل عشوائيته إلى محيطه، فالإنسان يتأثر ببيئته ولكنه أيضا هو من يصنع بيئته في معظم الأحيان.
ماذا تقترحين كسياسة أو كمخطط ناجع للقضاء على أزمة السكن في الجزائر؟

أولا لا ينبغي أن نتحدث عن السكن كهدف  بذاته بل  يجب أن نتحدث عن “وحدات حياتية  “تضم السكن، بالإضافة إلى المرافق الضرورية لاستقرار ساكنيه، أي للدراسة والعمل والتسوق والراحة والرياضة..

– كنت أتمنى أن تستثمر الدولة أكثر في السكنات الايجارية بدل الاعتماد على التمليك. فهدا كان سيجعل الشباب أكثر استقلالية ابتداء من سن العشرين، وبذلك يخف الضغط على السكن العائلي الكبير، و يرتبط مفهوم السكن بمفهوم العمل. كما أن هذا كان سيشكل مصدر ثروة دائم على المستوى المحلي وسيسهل التحكم في شكل  العقار وسعره والحفاظ عليه .

– أما على مستوى المخططات فكان يجب على مكاتب الدراسات وأصحاب المشاريع العمومية والخاصة التوقف عن اعتماد طريقة الكتلة الخطية والكتلة الركنية “bloc d’angle-bloc linéaire”   التي ضيعت الكثير من المساحة و المال دون أي فائدة  أو جمالية تذكر.

 – بالإضافة إلى أن زيادة عدد الطوابق و إنشاء  طوابق تحت الأرضية كان سيوفر الكثير من المساحات التي يمكن استغلالها كمساحات خضراء للراحة والاستجمام، في الحقيقة هناك العديد من الحلول، نحتاج فقط إلى إرادة أكبر.

هل لك أفكار تقترحينها لتحسين واجهات المدن، وإقامة بنى تحتية وفق معايير عصرية تأخذ الهوية الوطنية بعين الاعتبار؟

ليس تسويدا للوضع و لكننا نحتاج إلى هندسة تأخذ بعين الإعتبار إنسانية المواطن أولا، وهذا بدءا من البرمجة المعمارية – التي توكّل أحيانا إلى أشخاص لا علاقة لهم بالمجال –  وانتهاء  بالهندسة الداخلية والألوان و هندسة المساحات الخضراء التي لا يعرف الكثير أنها فروع من اختصاصات الهندسة المعمارية، ويعتبرها البعض مجرد مكملات يمكن الاستغناء عنها.

منذ الإستقلال و نحن نقوم بعملية استنزاف شاملة للمدن الاستعمارية القديمة، في حين أنه كان يجب التركيز أكثر على الأرياف التي أهملت رغم انه كان يمكن تنميتها وتحويلها إلى مدن فسيحة وجميلة، بعيدا عن حالة الإنسداد الحضري التي نعيشها. فحاجتنا إلى مدن جديدة لم يعد أمرا خفيا، ولا يمكن الحديث عن إعادة تهيئة المدن الحالية أو تجميلها إلا بعد تخفيف الضغط عليها ببناء هذه المراكز  الجديدة.

حينها فقط يمكن أن نبادر بالتفكير بإعادة تهيئة المدن القديمة – الاستعمارية – من خلال إعادة النظر في شبكة الطرقات و مدى صلاحية النسيج العمراني – بماذا نحتفظ و عما سنتخلى، وربما إنشاء فضاءات تجارية عملاقة من شأنها أن تقضي على التجارة النقطية التي تشكل عبئا واكتظاظا خانقا  في المدن الكبرى.

وذلك كله أيضا مرهون بضرورة تحرير دفاتر شروط جديدة، ونصوص قانونية تؤطر أكثر الحياة في المدينة و تفرض السلوك الحضاري على الناس بدل أن تستعطفهم.

لا شك أن لك جولات خارج الوطن وبالضبط في بعض البلدان العربية كيف تقيمين واقع العمارة في البلدان العربية؟

الوضع طبعا يختلف من دولة إلى أخرى، فبين العمارة المتصالحة مع نفسها ومع الطبيعة  في سلطنة عمان إلى العمارة الحديثة الصارخة في دبي، إلى ثقافة العشوائيات والمراقد الكبيرة في دول أخرى لا تزال المدينة العربية تبحث عن ذاتها بعد أن قررت – أو بالأحرى قُرّر لها – في يوم من الأيام أن تكسر باب الحارة،  أو باب الحومة، وتفتحه على مصراعيه لكل الغرباء، وهي تتخبط في رحلة  البحث عن الهوية وعن شكل نهائي يليق بها.

ماذا عن دراساتك التاريخية؟

بدأت اهتماماتي التاريخية بالجامعة عندما اكتشفت مادة – التاريخ النقدي للهندسة –  ثم ما لبث أن تحول اهتمامي بتاريخ العمارة إلى اهتمامي بتاريخ الانسان ذاته، فالمهندس  بحسه النقدي العالي  وتركيزه على التفاصيل وجمعه بين التخيل النظري والجانب العملي  بإمكانه إثراء الدراسات التاريخية أكثر، كما أن التاريخ المعماري أو تاريخ العمارة هو فرع من فروع الهندسة.

 أما عن دراساتي فهي حاليا قيد التدوين وهناك الكثير من المواضيع التي نشرتها على الشبكة الإلكترونية  وسأجمعها  لا حقا إن شاء الله في كتاب. وهي تخص دراسات في أصول  أسماء المدن والعائلات  والبحث عن  الحلقة المفقودة بين الأمس والحاضر،  وهنا أخص بالذكر الفترة الإسلامية والأندلسية خاصة، هذه الفترة المظلومة من تاريخنا رغم تأثيرها المباشر على حاضرنا.

بالإضافة إلى مقارنات هندسية و لغوية وتدوينا لشهادات وروايات تراثية  نخاف أن تنقرض  خصوصا بمنطقتي – ولاية تيبازة –  هذه البوتقة التي انصهرت فيها حضارات الشرق والغرب فصارت تعتبر الاختلاف مكسبا يحتفى به لا محل صراع  أو تصادم.

 تحرصين كثيرا على توثيق بحوثك وتجاربك المهنية وحتى الشخصية عن طريق الكتابة التقنية ما سبب ذلك؟

مشكلة المهندس أو الإطار الجزائري عموما أنه لا يكتب و لا يقيد تجاربه، عكس الفرد الغربي الذي يكتب عن كل شيء يراه.. عن جاره في العمارة عن الكائنات التي تقاسمه مساحة سكنه، أو حتى عن مشاعره، عكسنا نحن نعيش بسطحية قد نتأثر وربما نكتشف وربما نبدع لكننا قلّما نفكر في تدوين ذلك فتصبح كل تجربة إنسانية أو علمية أو تقنية  عندنا هي  بمثابة الجوهرة  الملقاة في القمامة، تموت بموت صاحبها، فيكرر كل جيل أخطاء سابقيه فنخسر جميعا.

ولذلك أصر على الكتابة التقنية، وحاليا قد  ترجمت كتابين في التاريخ،  وأنا بصدد كتابة  آخر عن هندسة المستشفيات والمنشات الصحية،  على أمل نشرها جميعا في المستقبل إن شاء الله.

مقالات ذات صلة