الرأي

المشكلة الثقافية

التهامي مجوري
  • 3703
  • 0

في إطار الحملة التي تتعرض لها وزيرة الثقافة السيدة نادية لعبيدي، والملفات المفتوحة بأبوابها الجهنمية عليها، تذكرت ما لا نهاية له من مآسي الثقافة ورجالها في بلادنا, وانا في الحقيقة لم أعرف السيدة لعبيدي من قبل، ولكن الجو والأساليب القذرة التي تعالج يها مشكلات في قطاعها المسؤولة عنه، أعرفه جيدا وأكاد أجزم ببعض اهدافه الفئوية الساقطة.

أقول هذا ليس انتصارا للسيدة لعبيدي، التي لا أعرفها كما قلت –لا بالخير ولا بالشر-، ولا انتقاصا من خصومها، الذين لا أعرفهم بأعيانهم، وإنما أعرفهم بأساليبهم وغاياتهم البائسة، وإنما أقول إن المسؤولية مسؤولية قطاع، والجرم معلق برقاب كل الذين مروا عليه، وبقدر بقائه وتجاوبه مع هذا الجرم أو ذاك، وما أكثر الجرائم في هذا القطاع.

هل يعقل أن يتحمل الأخير في القطاع مسؤولية جرائم كل السابقين له؟ وإذا كانت هذه الوزيرة باعتبارها من اهل القطاع قد أجرمت من قبل، فلماذا ينتظر القوم حتى تكون وزيرة لينقضوا عليها، وإلا فلماذا لم يحملوا عليها من قبل ما دامت الحرقة الوطنية هي التي تحركهم؟ أم انها حركت بعض ما يقلقهم؟ أو مجرد وجودها على رأس الوزارة يقلقهم؟

على كل حال قصة السيدة لعبيدي وخصومها، لا تمثل إلا قطرة في بحر، والذي يهمنا هو البحر وليس قطراته؛ ومعالجة مشكلات البحار، تساعد على فهم ما في البحار.

إن المسألة الثقافية في كل مجتمع، هي نتاج جهد معرفي وتربوي كبير تقوم به مؤسسات المجتمع الشعبية والرسمية، ولذلك قيل: إن الثقافة هي ما يبقى عندما ننسى كل ما تعلمناه في المدارس، أو كما قال ابن نبي رحمه الله الثقافة هي نظرية في السلوك أكثر منها نظرية في المعرفة، وأفضل من قام بهذا الدور في الجزائر قبل أكثر من ثمانين سنة أي قبل الاستقلال بجميع أبعاده الاجتماعية والسياسية، هي جمعية العلماء العلماء المسلمين الجزائريين، التي انكلقت في مشروعها من “فكرة صحيحة ولو مع علم قليل”، وساعدها في ذلك الزوايا والكتاتيب القرآنية والكشافة الإسلامية والجمعيات الخيرية والفنية التي كانت تنشأ هنا وهناك..، والتأكيد على جمعية العلماء لأنها بنت مشروعها الإصلاحي الاستقلالي على ذلك في جميع المجالات بما في ذلك التنشئة السياسية ذاتها؛ لأن التنشئت السياسية التي لا تفترض مفاصلة، تنشئة قاصرة لأنها لا تحقق الاستقلال الحقيقي.

اما باقي أجنحة الحركة الوطنية، فلم تكن تعمل على المشروع الثقافي بعمقه الاجتماعي والسياسي، فالحزب الشيوعي مثلا  كان منشغلا بالأممية التي لا تعطي للمسألة الوطنية إلا القدر الذي يسلم بأدبيات البيان الشيوعي، بما في ذلك المسألة الثقافية، والذي خرج عن هذا الخط تخلوا عنه أو ابعدوه أو تخلى عنهم وربما كان عمار أوزقان نموذجا لذلك، والإندماجيون لم يكن يعنيهم إلا المطالب السياسية وهي “حقوق المواطنة”، ومع ذلك فقد انحرف بعضهم عن ذلك عندما، أدرجوا بعضا من المسألة الثقافية، وهي قضية الاحوال الشخصية العاصمة من الاندماج والذوبان، اما الخط الاستقلالي فهو خط ثوري، والثوري غالبا ما يغفل عن المسألة الثقافية في البرنامج التحرري؛ لأن الفعل العسكري هو الذي يسيطر عليه وعلى مساره.  

فالمشروع الثقافي الذي أسست له جمعية العلماء، هو المشروع المعبر عن الجزائر وعمقها الحضاري، وقد تأثرت به أجنحة الحركة الوطنية، وتبنته في أدبياتها ومواقفها من المفاصل الحضارية، كالدين واللغة والوروث الوطني وأعرافه، ومن ذلك بيان أول نوفمبر ومواثيق الثورة ذاتها، ولكن لما كانت الجمعية من ضحايا النظام السياسي بعد الاستقلال، بل على رأس قائمة المهمشين، وسواء قلنا أن ذلك بسبب المواقف الحزبية الضيقة، أو أن سوء تقدير قيادات الثورة والسلطة بعد الاستقلال للموقف من الثقافة والمثقف والمتعلم عموما، فالنتيجة واحدة، وهي أن صانع الثقافة يخاف منه ومن ثم لا بد من تحييده…، اما إذا أسأنا الظن ورحنا نكرر ما يروى من مواقف  تجاه المناضلين المتعلمين من المفكرين والسياسيين ومن نحا نحوهم منذ سنة 1957 أي أثناء الثورة، فإننا نجزم بأن المسألة الثقافية، هي المعركة الحقيقية في المرحلة المقبلة أي بعد الاستقلال العسكري، وبحكم ان صناعة الثقافة قد وضعت بين أيدي رجال السلطة من السياسيين والعسكريين، ومن استعانوا بهم كموظفين، للقيام بالمهمة الثقافية في إطار نظام الحزب الواحد، الذي لا مسؤول فيه عن المآسي.

وعندما تسند المسألة الثقافية للسياسيين أو للسلطة، فإن المفترض أن يكون المسؤول عنها القطاعات المتصلة بها، وفي بلادنا هي وزارات: الثقافة والإعلام والأوقاف والشؤون الدينية والتربية، ذلك أن هذه القطاعات هي المطالبة بصناعة ثقافة المجتمع، وهي المؤهلة لذلك، ولكن الذي وقع في بلادنا خلال سنوات الاستقلال -1962/2015 أن هذه الوزارات عاشت متنافرة فيما بينها متنازعة متناحرة، فوزارة الأوقاف لا يصلح لها إلا أهل الإختصاص وهم المتدينون من أئمة وحفاظ القرآن من أبناء الزوايا وبقايا جمعية العلماء والطرق الصوفية، ووزارتي الثقافة والإعلام فقد هيمن عليها التيار الشيوعي بحكم أن توجه البلاد في بداية الاستقلال كان اشتراكيا، اما قطاع التربية فكان خليطا من هنا وهناك ولكنه في النهاية بقي حلبة للصراع، بين الفئات الايديولوجية، والسلطة في كل ذلك لا يهمها من كل ذلك إلا تثمين الخطاب السياسي، لأنها في الجوهر عاجزة عن وضع مشروع صالح للمجتمع الجزائري، أو قل عاجزة عن تنفيذ مشروع صالح للمجتمع، ولذلك لما كان أحمد طالب الإبراهيمي وزيرا للتربية الوطنية كان للوزارة توجها، ولما تولى مصطفى لشرف الوزارة أصبح لها توجها آخر يختلف تماما عما كانت عليه من قبل..

فالسياسة الثقافية في المجتمع الجزائري لا وجود لها، أو لا قيمة لها في واقع البلاد ولا لرجالها، بحيث عندما كانت أحداث التحول السياسي والاقتصادي سنة 1988، عادت الطبقة السياسية تناقش كل المسلمات بما في ذلك مسألة الهوية.. نحن عرب أم بربر؟ هل الجزائري بالضرورة يكون مسلما؟ هل امتدادنا متوسطي أم مشرقي؟ ما هو دور السلطة في عملية الاصلاح؟ ما دور المعارضة؟ هل العلاقة بينهما علاقة تعاون؟ أم علاقة صارع ومصروع؟ كل هذه الأمور لم تكن عليها إجابات واضحة ولن تكون، لأن مبناها على البت في المسألة الثقافية التي اختزلت في وزارة الثقافة، وفي علاقتها بالمكتبات والمطبوعا من كتب ومجلات واستيراد كتب وتبني كتاب معينين يمثلون الدولة الجزائرية في المحافل الدولية، وفي المهرجنات والحفلات الغنائية والرقص “والشطيح والرديح”.

وحصر المسألة الثقافية في وزارة الثقافة وانبثق عنها من مآسي، بمعزل عن باقي القطاعات المسؤولة عن المسألة الثقافية، جعل من الثقافة لعبة بين أيدي السياسيين، الذين لا هم لهم إلى  التغني بالخيارات السياسية الآنية، واستغلال الفئات ومالجموعات الايديوليوجية للانتقام من خصومهم في الساحة، كما وقع للمساجد أيضا فقد كانت أبواقا لخطاب السلطة أو رهينة لخيارات مذهبية جزئية وفهوم طائفية للدين، لا تمثل الوظيفة الحقيقية للدين في حياة الناس، ومن ثم ضاعت الثقافة بين هذه الفئات المتنازعة، وضاع المثقفون بين هؤلاء وأولئك، فلم يجدوا من يسمع إليهم أو حتى من يفهم ما يقولون.

وعندما نقول إن وزارة الثقافة هي الحارس الأمين للمسألة الثقافية في البلاد، فمعنى ذلك أننا نتكلم عن إدارة ثقافية وليس عن سياسة ثقافية، وعليه من الطبيعي، أن تفكر الوزارة في إنشاء المكتبات وطبع الكتب واستيرادها، أكثر مما تفكر في صناعة الرأي والفكر والتوجيه الثقافي العام، وإذا فكرت فيه إنما تفكر فيه كوسيلة من وسائل التسلية، وهذا الفراغ البرمجي، ستستفيد منه الاتجاهات الأيديولوجية، مستغلة الفراغ المؤسسي وذلك ما وقع خلال سنوات الاستقلال كلها بكل أسف، وما بقي من شعور بحاجة البلاد إلى مشاريع وبرامج ثقافية تساعد على صياغة المواطن الجزائري المستقل، بقي يعارك، في إطار صراع بين الإدارة الثقافية والسياسة الثقافية.  

مقالات ذات صلة