-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الموت ليس موعدا مرعبا (2)!

سلطان بركاني
  • 727
  • 0
الموت ليس موعدا مرعبا (2)!

ليس على العبد المؤمن عذاب في قبره؛ فهو يقضي حياة البرزخ في نور وحبور وأنس وسعادة وسرور، يأتيه ما يسرّه من أخبار أهله وأبنائه الأحياء مع الموتى القادمين، ويشعر بأهله وأبنائه وأصحابه وخلاّنه ويفرح بهم عندما يزورون قبره، وينتفع بدعائهم وصدقاتهم، يقول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: “ما من رجل يزور قبر ‏أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم” (صححه ‏الأشبيلي)، ويقول –عليه الصّلاة والسّلام- أيضا: “ما من أحد مرّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا، فسلّم عليه إلا عرفه وردّ عليه السّلام” (أخرجه الخطيب وابن عساكر).

ليس هذا فحسب، بل إنّ الله بكرمه قضى أنّ أرواح الأموات من عباد الله المؤمنين الصّالحين تلتقي وتتزاور وتتذاكر أمر الدّنيا وتسأل عن حال الأحياء. وقد ورد في حديث عند النسائي عن رحلة الموت: “فيأتون به أرواح المؤمنين (الذين توفوا من قبل)، فلَهُم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غم الدنيا”.

بل أكثر من هذا، فإنّ الله قضى أنّ أرواح الأموات تلتقي أرواح الأحياء في منامها متى أذن الله بذلك، فربّما يرى العبد المؤمن أباه المتوفّى أو أمّه المتوفّاة أو صديقه الذي رحل إلى دار البقاء، يراه في المنام، وتلتقي روحُه روحَه، ويسأله عن حاله فيجيبه. فالنّوم أخو الموت، وروح العبد أثناء نومه قد تسرح في عوالم الغيب وتلتقي من شاء الله لها أن تلتقي من أرواح الأحياء والأموات، قال ابن كثير –رحمه الله- في قوله تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى))، قال: “فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى، كما وَرَد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره”، وقال بعض السلف: “تُقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) التي قد ماتت، ويُرْسِل الأخرى إلى أجل مسمّى”.

الرّحيل عن الدّنيا هو أسعد رحلة للعبد المؤمن الذي جعل رضا الله رأس ماله ونظّم حياته وأوقاته.. والقدوم على الله هو أسعد مقدم للعبد المؤمن الذي أحبّ الله وأحبّ لقاءه.. ويوم القيامة هو يوم خوف وفزع، ليس للعبد المؤمن، إنّما لمن غرّته الحياة الدّنيا.. أمّا العبد المؤمن فإنّ يوم القيامة هو يوم رحمة بالنّسبة إليه، يُعاين فيه سعة رحمة الله.. يقول النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن الإنس، والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم” (أخرجه مسلم).

في يوم القيامة والحساب يُدنِي الله عبده المؤمن، حتى يضع عليه ستره، فيقول الربّ سبحانه: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: “سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم”.

يوم القيامة هو يوم المرحمة لعباد الله المؤمنين، يقفون فيه ليقضي فيهم من هو أرحم بهم سبحانه من والديهم، عن عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي: قال خرجت فإذا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبو بكر وعمر قعودًا، وإذا غلام صغير يبكي، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم– لعمر: “ضمَّ الصبيَّ إليك؛ فإنه ضالٌّ”، فضمَّه عمر إليه، فبينا نحن قعود إذ أمٌّ له تُوَلْوِل وتقول: وابنيَّاه! وتبكي، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لعمر: “نادِ المرأة فإنها أمُّ الصبي”، وهي كاشفة عن رأسها ليس على رأسها خمار جزعًا على ابنها، فجاءت حتى قبضت الصبي من حجر عمر، وهي تبكي والصبي في حجرها، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند ذلك: “أترون هذه رحيمة بولدها؟”، فقال أصحابه: بلى يا رسول الله، كفى بالمؤمن رحمة، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “والذي نفس محمد بيده، الله أرحم بالمؤمن من هذه بولدها”.

وفي واقعة أخرى، مرَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأناس من أصحابه وصبي بين ظهراني الطريق، فلمَّا رأتْ أمُّه الدواب خشيت على ابنها أن يُوطَأ فسعتْ والِهَة، فقالت: ابني، ابني، فاحتملت ابنها فقال القوم: يا نبي الله، ما كانت هذه لتُلقِي ابنها في النار، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “والله لا يلقي حبيبه في النار” (رواه الإمام أحمد والحاكم).

يروي بكر بن سليمان الصّوّاف، أحد تلامذة الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- عن اللحظات الأخيرة من حياة هذا الإمام العلم فيقول: دخلنا على مالك بن أنس في العشيّة التي قبض فيها فقلنا: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: “ما أدري ما أقول لكم إلّا أنّكم ستعاينون غدا من عفو اللّه ما لم يكن لكم في حساب”. قال: ثمّ ما برحنا حتّى أغمضناه.

نعم؛ سنعاين يوم القيامة من عفو الله ورحمته ما لم يكن يخطر لنا على بال، ونرى -بإذن الله- كيف أنّ الرّحيم سبحانه لا يلقي من أحبّوه في النّار، ينبغي فقط لكلّ واحد منّا أن يكون أكبر همّه في هذه الدّنيا أن يحبّه الله ويرضى عنه، فإذا أحبّه الله كان الرّحيل عن الدّنيا أمتع رحلة، وكان القبر روضة من رياض الجنّة، وكان الوقوف بين يدي الله أهنأ وأسعد موقف، ولا يبلغ العبد منزلة أن يحبّه الله، حتّى يكون الله -جلّ وعلا- أحبّ إلى العبد من نفسه وماله وأهله وولده.. ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)).

إذا أردت -أخي المؤمن- أن تمتحن نفسك هل الله أحبّ إليك من نفسك ومن كلّ ما سواه، فانظر إذا وقفت بين أمرين؛ أحدهما فيه ما يحبّ الله، والآخر فيه ما تحبّه نفسك؛ فأيّهما تختار؟ العبد المؤمن الذي يحبّ الله يختار ما يحبّه مولاه ولو كان ثقيلا على نفسه.. العبد المؤمن الذي يكون الله سبحانه أحبّ إليه ممّا سواه يجد راحته وأنسه وسعادته في التقرّب إلى الله والتذلّل والخشوع له: يقول -جلّ وعزّ- كما في الحديث القدسيّ: “ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!