-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

النقد التربوي بين أصحاب المدرسة القديمة والمدارس الثورية

خير الدين هني
  • 999
  • 0
النقد التربوي بين أصحاب المدرسة القديمة والمدارس الثورية

الخلاف قائمٌ على أشده بين أصحاب المدرسة القديمة، وأصحاب المدارس الثورية في النقد التربوي، منذ أن استقلّ علم النفس عن الدراسات الفلسفية على يد العالم الألماني فونت (طبيب وعالم فيزيائي وفيلسوف، يعدّ المؤسسَ الفعلي لعلم النفس التجريبي الحديث) إذ أقام ثورة جذرية على المفاهيم القديمة في علم النفس الذي كان من ضمن المباحث الفلسفية والبيولوجية، وقد استطاع أن يُحدث هذه الثورة من خلال تأسيس مختبر رسمي للبحوث النفسية في جامعة لايبزيغ في عام 1879.

ومنذ ذلك التاريخ برز علم النفس كحقل منفصل عن العلوم الأخرى ذات الصلة، إذ أصبح  علما تجريبيا كعلوم الفيزياء والكيمياء، بعد أن كان علما شعوريا ممزوجا بالبحوث الفلسفية، وكان قبل ذلك يبني تصوُّراته على فروض خاطئة، لا تمتُّ إلى الطبيعة النفسية للإنسان والمتعلمين بخاصة، وكانت المناهج الدراسية تُبنى على التصوُّرات النفسية التي تعتبر الطفل صفحة بيضاء يمكن ملؤها بأيّ خبرة تعليمية، ولما كان علم النفس يبني فروضه على شطحات الفلسفة في تصور النفس الإنسانية، جعل المربين يخالون بأن الطفل محدود القدرات والمدارك، عديم الخبرة، منزوع الإرادة والدوافع والأحاسيس والمشاعر والميول والرغبات والاتجاهات العاطفية.

وأحدث هذا التصوّر الخاطئ، تراكما من الأخطاء أدت إلى بناء مناهج منفصلة عن الحقيقة النفسية للمتعلمين، فكان الكبار هم من يقررون المادة الدراسية ومعاييرَها النفسية والتربوية، لكون المتعلمين -في تصوّرهم- غير مؤهلين لإدراك الحقيقة المعرفية، ومن التصورات الخاطئة للتربية القديمة أنها تعتقد بأن المتعلمين، لا يملكون القدرات الذهنية العليا لاستيعاب المعارف والخبرات المعقدة، وأنهم لا يستطيعون بناء المعرفة من طريق أنشطة ذاتية، من غير مدرِّس يلقنهم المعرفة من طريق الإلقاء، والتسميع والحشو والتكديس وطرح الأسئلة من طريق امتحانات المقال والتقويم الكمي غير المعياري، وهو التقويم الانطباعي الذي يخضع لذاتية الناقد أو المقوِّم..

ولما كانت التربية القديمة تتأسس على علم النفس الشعوري، اعتقدوا بأن الحشو والتكديس والحفظ والاسترجاع الببّغاوي يوم الامتحان، هو الغاية النهائية لأهداف التربية، ولذلك سُمِّيت هذه المقاربة بـ”مقاربة التدريس بالمضامين”، وهي المقاربة التي كانت منتشرة في العالم، وقد تطورت بمباحث ثورية، بعدما تأسست مدارس علم النفس في أمريكا بين (1895-1912) كالمدرسة القصدية والتحليلية والوظيفية… وآخرها السلوكية في عام 1912.

وكانت هذه المدارس قد تأثرت بعلم النفس التجريبي الذي أسسه “فونت”، ولكن المدرسة السلوكية كانت هي أشهر مدرسة تأثرت بتجارب التعلّم على الحيوانات، على أيدي الرواد الأوائل: (واطسون، سكنر، ثورندايك، كوهلر، كوفكا من أمريكا، وبافلوف من روسيا)، فتوصلوا من خلال التجارب على الحيوانات، إلى صياغة نظريات التعلّم الشهيرة (التعلم بالمحاولة والخطأ، والتعلّم بالاستبصار، والتعلّم الشرطي)، وهذه النظريات اعتمدت على طريقة (هيربرت) في التدريس ذات الخمس مراحل، وهي الطريقة التي اهتمت بتنظيم المادة الدراسية، وليس على القدرات الذهنية للمتعلمين.

وهذه المقاربة المضامينية، وطرقها المنفصلة عن اهتمامات المتعلمين ورغباتهم، في التحصيل والبناء والتقويم والوظيفة المقاولاتية وسوق العمل، والتي تدرَّس بأساليب التعليم المسطّح ذي المعرفة المباشرة، من غير معايير ولا مؤشرات يقيس بها المتعلّم سير تقدمه في بناء تعلّماته، وليس بالتعلّم الذي يبنيه المتعلم بالاعتماد على قدراته ومهاراته وخبراته، وقياس نشاطه وكفاءته العمودية والعرضية ذاتيا بالتغذية الراجعة (فيدباك) وبالوجاهة المعيارية التي توضع له ضمن  شبكة ممعْيَرة بخطوات دقيقة في منهجية التقويم والوضوح البياني، وضمن امتحانات موضوعية تقدَّم له في ألغاز ومطبَّات وكمائن، تشحذ فكره وتصقل مواهبه، وتعمّق تفكيره ومداركه وتوسّع خياله وتصوّراته، لأن الدماغ الإنساني -حسب التجارب التي أجريت في المخابر ومراكز البحث النفسي والتربوي وقياس معدلات الذكاء- أثبتت أن الدماغ حينما يتعامل مع الوضعيات الصعبة والمعقدة التي تُقدَّم له في ألغاز وكمائن، هي التي تنمي قدراته العقلية العليا: التحليل والتعليل والتركيب والتقويم وإصدار الأحكام المستقلة، وتدربه على  التفكير العميق، وتوسّع خياله وتجعله خيالا خصيبا، وهذه القدرات هي التي تقود إلى إبداع  الأفكار والقوانين والنظريات والنظم، وابتكار الحلول الجذرية للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. وغيرها.

أما المقاربة المضامينية التي اعتُمدت في بناء التعليم الأساسي وما قبل الأساسي عندنا، فهي تعتمد على التسطيح في وضع المناهج والنصوص وبناء الاختبارات وأساليب التقويم الكمي، لأنها تعتبر التلميذ غير نامي القدرات، وهو لذلك لا يستوعب المعاني والمعارف المعقدة، خلافا لما أثبته خبراء التربية من كون الطفل عبقريا وفذّا في قدرته على التكيّف مع الوضعيات المختلفة في السهولة والصعوبة، لذلك استعاضوا عن المقاربة المضامينية والمقاربة بالأهداف اللتين تتأسسان على النظرية السلوكية، استعاضوا عنها بالمقاربة البنائية التي تعتبر الكفاءة هي التي تشكل مخرجات التربية وأهدافها، لأنها تتوافق مع الوظيفة المقاولاتية وسوق العمل.

والبنائيون العقلانيون من أصحاب نظرية الصيرورة العقلية (التحولات والتغيرات) التي تعتمد على التفكير في بناء المعرفة، (بياجي، شومسكي.. وغيرهما ممن يعتمدون  المذهب العقلي عند ديكارت)، انتقدوا السلوكية نقدا لاذعا، لأنها تعتمد على تجارب التعلم عند الحيوانات في صياغة نظريات التعلم، (نظرية المثير والاستجابة)، فجعلوا التعلّم من وظائف العقل وليس عن طريق المثير والاستجابة، لأن الإنسان مترقٍّ بالفكر عن الحيوان،

وهذا ما اعتُمد عام 2003 في الجزائر، حينما اعتُمدت المقاربة البنائية، وهي المقاربة التي أحدثت ثورة في عالم الأفكار والتربية، فبنت المناهج على تصوّر نفسي وعقلي وتربوي وتقني جديد، فانتقلت من مقاربة التعليم إلى مقاربة التعلّم، ومن الإلقاء والحشو والحفظ والتكديس، إلى بناء المعرفة والخبرات من طريق التعلّم الذاتي، وفق خطة تجعل المادة الدراسية (النشاط التعليمي)، مبنيا على معارف ومعطيات وبيانات ووضعيات معقدة، تقدِّم المعارف والخبرات في ألغاز وكمائن، تعمّق تفكير المتعلمين وتوسّع أخيلتهم، مما جعل الأولياء وغير المتخصصين في علوم التربية يستصعبون هذه التقنية الجديدة في التعليمية الخاصة، واستصعبوا نظم التقويم المبنية على التعلّم والوجاهة المعيارية. لأن الشركاء الاجتماعيين معذورون في نقدهم لنظام المقاربة البنائية، المبنية على فلسفة تربوية وتقنية تختلف اختلافا كبيرا عن فلسفة المقاربة المضامينية التقليدية، وعلى هذا التباين بُنيت الآراء بين أصحاب المدرسة القديمة ممن مازالوا متأثرين بمناهج المدرسة الأساسية ذات الفلسفة المضامينية، لأنهم تلقوا تعليمهم على أسُسها ودرّسوا بها، لذلك شقّ عليهم تكييفُ أنفسهم مع المقاربة الجديدة، خلافا لأصحاب المدرسة البنائية ممن تعمّقوا في دراسة المقاربات المختلفة، ووازنوا بين مدارسها وفلسفاتها وتقنياتها وأهدافها وأبعادها. (المقاربة بالمضامين والمقاربة بالأهداف والمقاربة البنائية)، وهي المقاربات التي اعتمدها نظامُنا التربوي من الاستقلال إلى يومنا هذا، أما المقاربة بالذكاءات المتعددة التي تمثل الجيل الرابع فلم تصل إلينا.

الدماغ الإنساني -حسب التجارب التي أجريت في المخابر ومراكز البحث النفسي والتربوي وقياس معدلات الذكاء- أثبتت أن الدماغ حينما يتعامل مع الوضعيات الصعبة والمعقدة التي تُقدَّم له في ألغاز وكمائن، هي التي تنمي قدراته العقلية العليا: التحليل والتعليل والتركيب والتقويم وإصدار الأحكام المستقلة، وتدربه على  التفكير العميق، وتوسّع خياله وتجعله خيالا خصيبا، وهذه القدرات هي التي تقود إلى إبداع  الأفكار والقوانين والنظريات والنظم، وابتكار الحلول الجذرية للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. وغيرها.

ولهذه الأسباب صعُب على أصحاب المدرسة القديمة، فهمُ فلسفة بناء مناهج المقاربة البنائية، وطرائق تدريسها ونُظم تقويمها، واختيار أوراق وتصميم كتبها ومحاورها ومقاطعها ووحداتها، فثقل الكتاب المدرسي فرضته نوعية الورق المصقول، ووجود البياضات بين الأسطر والصور والأسئلة والبيانات، وطرق تصميم الوحدات بالشروط النفسية والتربوية.

والكتاب المدرسي، ليس كتابا عامّا تُرصّ خطوطه رصا، وبأحرف دقيقة تكتب على أي نوع من الورق، لأن ذلك يتلاءم مع الكبار لكونه كتابا تثقيفيا، خلافا للكتاب المدرسي فهو ذو طبيعة تعليمية تعلّمية، ولذلك يُشترط في تأليفه المعايير النفسية والتربوية والجمالية.

نحن نتكلم –هنا- عن فلسفة المقاربات ومناهجها وتقنياتها، ونظم تقويمها وملاءمتها لسوق الوظيفة والعمل، ولا نتكلم على المرجعيات المعرفية التي تصاغ منها الأهداف والغايات والاتجاهات العامة للتربوية والتعليم، ولا نقصد المضمون المعرفي الذي تحويه نصوص الكتب المدرسية في مختلف المراحل التعليمية ولا لغة التعليم، فهذه مبادئ قطع فيها أكابر علماء التربية والنفس المنظرون لفلسفة التربية، فكلهم يجمعون على أن المرجعية العلمية والثقافية للنصوص، والقيم الدينية والأخلاقية والوطنية واللغوية، تكون من التراث الحضاري للأمّة، فالبشر تجمعهم التقنيات التربوية والعلوم العقلية والتطبيقية، وتفرّقهم المرجعيات الثقافية والقيمية واللغوية إلا من شكوا في ذواتهم وهوياتهم وحضارتهم.

سألتني إحدى قريباتي، (زوجها أستاذ فيزياء في الثانوي)، عن هذه الدروس الصّعبة التي تتجاوز المستوى العقلي لطفل السنة الأولى ابتدائية في الرياضيات، إذ عجز زوجُها على مساعدة طفله في توضيح بعض الدروس وهو أستاذ فيزياء، فقلت: العيب ليس في مستواه العلمي وإنما في الطريقة القديمة التي بُنيت عليها المناهج وبها تُعلّم وتدرَّس، إذ كانت تعتمد على المعرفة المباشرة، والأنشطة –هنا- مبنية على الألغاز والكمائن لتنمّي عقول المتعلمين، وشرحتُ لها بمقارنة الدروس القديمة مع الجديدة، ولكنّ “بقي شيءٌ في نفسها من حتى”، كما يقول النحاة، لأن تأثير القديم على نفوسهم كان عميقا. قال أكابر المربين البنائيين (شومسكي مثال): إن الطفل قادرٌ على فهم واستيعاب النصوص اللغوية ولو كانت من تأليف أدباء كبار، لأنّ عبقريته تؤهّله لإدراك ذلك، وتدريبه على حل الوضعيات المعقدة تعمّق تفكيره وتوسّع خياله، سأوضح في مقالات لاحقة -إن شاء الله- الفرق بين بناء المناهج والطرائق والتقنيات القديمة والجديدة، حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!