الرأي

انتحروا.. تعيشوا

تفاجأ أحد ولاة شرق البلاد، بحر الأسبوع الماضي، بشاب في الثلاثين من العمر، يتسلّق بناية مقر الولاية، ويهدّد بالانتحار حرقا، إذا لم تستجب السلطات لطلباته الاجتماعية، بعد أن خنقه دَين مالي لم يتمكن من تسديده إلى أصحابه. وكالعادة، تحوّل المشهد إلى فيلم على المباشر، تابعه الفضوليون، وطوارئ تدخّل خلالها رجال الحماية المدنية والأمن الوطني.

وكالعادة أيضا، نزل الشاب الذي لم يمرّ على خروجه من السجن إلا بضعة أيام، من أعلى البناية، ليجد نفسه أمام السيد الوالي، يروي قصته المالية وكل الآذان مصغية إليه. وخرج من مقر الولاية، وكل مشاكله قد حلّت من دون جرّة قلم، هذه الحادثة التي رصدها مراسل الجريدة، ليست الوحيدة أوالأولى، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، والمؤكد أن في الحكاية مذنبا واحدا على الأقل وربما كل الأطراف مذنبون. فإذا كان هذا الشاب ضحية لا مبالاة أو بيروقراطية أو جور الإدارة، فلا نفهم لماذا لا يعاقب الجائرون؟؟ وإذا كان قد قام بمشهد مرعب أمام مرأى الأطفال وعامة الناس في مقر عمل رسمي، فلا نفهم لماذا لا يعاقب هذا الشاب؟؟ وإذا كان الجميع مخطئا في هاته الحالة، فإننا سنفهم بسهولة لماذا وصلنا إلى هذا المستوى من حاكم ومحكوم، ضمن سياسة مزمنة، بعنوان ربح السلم الاجتماعي، حتى بمجازاة الذين يرتكبون ذنوبا في حق المجتمع، لأن المسؤول الذي يبخس المواطن حقه، أو المواطن الذي يحمل البنزين وولاعات النار ويهدد بالانتحار جزاءهم جميعا في أي بلد في العالم هو العقاب من توقيف عن العمل إلى السجن.

وقد اعترف والي قسنطينة بأن المئات من الأكواخ القصديرية قد نبتت في الآونة الأخيرة، من دون أن تتحرك آلات التهديم أو الزجر لإزالتها ولا نقول معاقبة من بناها، واعترف بأن بعض التهديدات التي صار يطلقها بعض هؤلاء المطالبين بالسكن، صارت تتمثل في عرقلة تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، وواضح أن الشعب قد تمكّن فعلا من ليّ  ذراع سلطة نسيت أن ما يسمى ربح السلم الاجتماعي يمكن تطبيقه لبعض الوقت، كما حدث عام 2011 في اليونان وليس طول العمر، وفي بعض الأماكن، كما حدث في المدن التي احتضنت كأس العالم في البرازيل، وليس في كل البرازيل، ولم تكن أبدا سياسة قائمة بذاتها، يستقبل فيها السيد الوالي، الذي لا يعرف بعض الذين يشتغلون معه صورته، شابا حمل دلو بنزين وأثار الرعب في كامل المدينة، ليمنحه ما يريد في لمح “البنزين”.

الذين يقولون إن الدولة مذنبة في وضعها الرجال غير المناسبين في الأماكن غير المناسبة، ويحملّونها الجزء الأكبر من هاته المشاهد التي جعلت الجزائر تشهد في ظرف سنة أكثر من خمسة عشر ألف احتجاج مادي، هم محقّون، لكن الذين يجدون العذر لهؤلاء المواطنين وهم يلهبون الشارع دخانا ويهددون بالانتحار مخطئون، فاستغلال ضعف الدولة لا يكون بإغراقها أكثر في الخطإ، لأن الطفل الذي شاهد والده يقطع الطريق من أجل التزوّد بالغاز الطبيعي، أو الذي شاهد والده وهو يسكب البنزين على بدنه ليحصل على قرض من البنك، لا يمكنه إلا أن يرث الضياع أو الانتحار المعنوي الحقيقي؟  

مقالات ذات صلة