-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بعد خمسين سنة من وفاة بن نبي.. ما ذا بقي من فكره؟

بقلم: أ. د / عبد القادر بوعرفة
  • 232
  • 0
بعد خمسين سنة من وفاة بن نبي.. ما ذا بقي من فكره؟

مر نصف قرن على وفاة المفكر مالك بن نبي، وهي مدة كفيلة بتقييم أفكاره وأعماله تقييما نقديا، بعيدا عن العاطفة الوطنية وسحرية الجغرافيا والتاريخ معا، فهو يُعد رأس مال رمزي للجزائر، وعَلما من أعلامها الكبار، ولكن هذه المكانة لا تُوجب التقديس ولا التبجيل، بل تفرض النَّقد والتَّجاوز، وتوظيفه توظيفا يُفيد إستراتيجية الأمة في التطور والتقدّم.
لقد هيمن ماركس على أوروبا زمنا طويلاً، لكن انبرى تلامذته ودارسوه إلى نقد فكره حتى يتطور ويتقدّم أكثر، فقدّم لوي ألتوسير دراسته “ماركس ضد ماركس” ليتجاوز الوثنية التي بدأت تصيب الماركسية. لذلك؛ يحتاج فكر بن نبي اليوم إلى دراسات نقدية (بن نبي ضد بن نبي)، لا سيما أنه منذ نصف قرن ونحن نبسط أفكاره ونعرضها كما هي، ولم نستطع تجاوزها ولا تحيينها، بل قدّمناها ولا نزال على أنها صالحة لكل زمان ومكان، بيد أن أفكاره يمكن تقسيمها إلى:
1 – أفكار صالحة لكل الأزمنة (العام والكلي).
2- أفكار صالحة في وقته فقط (السياق التاريخي).
3- أفكار غير صالحة (الجزئي المتجاوز). وعليه، ماذا بقي من فكره؟ وما الذي يمكن تطويره؟
يمكن في هذا المقال المقتضب أن أقدّم بعض الأفكار والمفاهيم التي يجب تجاوزها اليوم عبر القراءة النقدية التَّجاوزية، بناء على السياق والأفق الإستراتيجي. وتلك المفاهيم نوردها على النحو التالي:

أ‌- من القابلية للاستعمار إلى القابلية للتحضّر:
لم يعد مفهوم “القابلية للاستعمار” المعلم لفهم الذّات الإسلامية اليوم، بل نحن اليوم لابد أن نفكر في مفهوم “القابلية للتحضّر”، لأن المفهوم الأول فقد مسوغات وجوده بعد عمليات التّحرر، بينما الثاني يفرض مسوغات وجوده كوننا نعيش على عتبات العالمية الإسلامية الثانية، ويعيش جيل الألفية الثالثة نوعا من الوعي التاريخي والحضاري يدفعه نحو تأصيل ذاته وعصرنتها في الوقت عينه. ومن ناحية أخرى، فإن مفهوم “القابلية للاستعمار” ذاته يحمل مغالطة لغوية واصطلاحية، فالاستعمار مشتق من فعل عَمر يُعمر ومنه التعمير والعمارة والاستعمار، وهو فعل إيجابي لقوله تعالى: “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ”، (هود الآية:61).
أما المعنى الذي أراده مالك بن نبي، فهو عكس ذلك تماما، إذ كان يقصد معنى “القابلية للاحتلال” Colonisabilité التي تعني الاستلاب والشعور بالدونية والنقص.

ب- من إنسان ما بعد الموحدين إلى “إنسان ما بعد التحرير”
تفرد مالك بن نبي، دون شك، بمصطلح “إنسان ما بعد الموحدين” ويرمز إلى الأفول والانحطاط، ويحمل معالم السلب وغياب الأنموذج الحضاري، الذي بزغ مع الدعوة المحمدية. وبعد مرور نصف قرن أو يزيد، نلاحظ أن المسلم أحدث قطيعة تاريخية مع إنسان ما بعد الموحدين عبر إعلان تحرير الأرض والإنسان، وتحرير الإنسان من الأوثان والزعماء، ويبدو أننا بالفعل دخلنا مرحلة تدشين “إنسان ما بعد التحرير”.
ج- من مفهوم التخلف إلى مفهوم الأفول والانحطاط:
أريد أن أعيد النظر في مصطلح “التّخلف” إذ هو مصطلح أفرزته الإيديولوجية السياسية، فهو مفهوم استدماري أكثر منه فكري أو فلسفي. إن العالم الإسلامي لا يعيش أزمة تخلف، وإنما يعيش حالة أفول أو انحطاط نحدّدها بواسطة فلسفة التاريخ، فالمصطلح الأنسب هو ما لمح إليه ابن خلدون بالانحطاط، وبالطريقة ذاتها التي وظّفها أزفولد شبنغلر حين ألّف كتابه “أفول الغرب”. والقصد من ذلك أن المصطلح الأخير يحمل بعدا حضاريا عكس التخلف، إذ ينبئ بوجود حالة سابقة نطلق عليها حالة تحضّر، فالمسألة توحي بأننا أمام ظاهرة “تداول حضاري” أو “تداول كوني”، حسب مفاهيم القرآن، ومنه، فنحن لا نعيش حالة سكون، فالذي عاش لحظة تحضّر بإمكانه إعادة إنتاجها مرة أخرى متى توفرت الشروط والمسوغات.

د- من المعادلات العامة إلى المعادلات التفصيلية:
نعتقد أن لا أحد يجهل معادلة بن نبي الشهيرة المتعلقة بنشوء الحضارة، والتي صاغها وفق الصيغة التالية: الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت. ولقد دأب الكثير من المفكرين في شرحها وتفسيرها معتقدين أنها مفتاح التحضّر وسر التّمدن، بيد أن وضع المعادلة تحت مجهر النقد يبين أن مالك بن نبي أخطأ حين تعامل مع الظاهرة الإنسانية مثلما يتعامل الفيزيائي مع الظاهرة الطبيعية، فالظاهرة الإنسانية عصية عن الإمساك الكمي والترتيب الميكانيكي، فليس من السّهل وضع مجموعة من العناصر ضمن علاقة رياضية حتى تكون النتائج مترتبة عن المقدمات.

هـ- من فكرة كومنويلث إسلامي إلى فكرة الحلف العربي – الإسلامي:
قدّمها كفكرة وفق ما حدث في القرن الماضي، حين شكّلت بريطانيا منظمة الدول التي خضعت لاحتلالها وهيمنتها، وأطلقت عليها منظمة “دول الكومنويلث”. كان الهدف منها تشكيل كتلة دولية تعمل على تطوير العلاقات الثقافية والاجتماعية، ثم التعاون الاقتصادي والسياسي. وربما راقت فكرة الاتحاد لمالك بن نبي، فأراد أن يطبقها على دول العالم الإسلامي، بيد أن الفكرة كانت غريبة ودخيلة على الثقافة الإسلامية، والدليل على ذلك عدم اهتمام المفكرين ولا الساسة بها، فالاتحاد بين الدول الإسلامية لا بد أن يخضع لهيكل إسلامي محض وخاص، ونحن نقترح في تفعيل فكر مالك بأن نعيد صياغة فكرة كومنويلث بالحلف الإسلامي ونسميه على الأقل “اتحاد الدول الإسلامية”.

و- من مفهوم التعايش السلمي إلى مفهوم التجاور الحي.
أفرزت الحرب الباردة مفهوم التعايش السلمي، نتيجة الصراع المتأجّج بين روسيا وأمريكا في منتصف القرن الماضي، وكانت الخشية من اندلاع حرب نووية هي المحرك لفكرة التعايش السلمي.
بينما نحن نرى أن الإسلام أمر المسلم بحسن الجوار سواء كان الجوار بمعناه القريب أم البعيد، فنحن كأمة عرفت وصنعت الحضارة، نؤمن بضرورة حسن الجوار مع الأمم، شريطة أن يكون مؤسّسا على الحوار والتفاهم، ثم ممارسة فعل التجاور الحي ليؤمن للمتجاورين حق الوجود والكرامة والحرية، فالجوار الحي في الإسلام غير مبني على منطق الخوف والخشية من الآخر، بل مبني على أساس منطق التعارف والتآلف بالرغم من الاختلاف.

ز- من وعي الصعوبات إلى خلقها وتجاوزها:
اعتبر مالك بن نبي وعي الصعوبات من أهم اللحظات التي تمر بها الذات في مرحلة بنائها، فهي المرحلة التي تسبق مرحلة الفراغ الكوني وتمهد للذات خوض تجربة التماهي مع عالم الأفكار والمثل، ونحن نعتقد اليوم أن وعي الصعوبات لا يفيد الذات في تغيير واقعها، بل على الذات اليوم خلق الصعوبات حتى تتمكّن من التحدي وتحقيق مبدأ التدافع القرآني، ودليلنا أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يسعون إلى خلق الصعوبات من أجل معرفة مراتب الرجال ومدارج الإيمان.

ح- من الأمراض شبه الصبيانية إلى القدرات الحيوية:

أكد مالك بن نبي أن تلك الأمراض ظلّت لصيقة بإنسان ما بعد الموحدين، أما ونحن نعيش إنسان ما بعد – بعد الموحدين، فلزاما علينا أن ننتقل من رصد الأمراض إلى رصد القدرات والطاقات الكامنة، التي من شأنها أن تساعدنا على وضع إنسان ما بعد الانحطاط على عتبات الحضارة في الألفيات القادمة.

ط- من “علم تجديد الصلة بالله” إلى “علم تجسيد الصلة بالله”:
أراد مالك بن نبي أن يؤسّس علما جديدا يؤطر علاقة الذات بخالقها، فاقترح تسميته “علم تجديد الصلة بالله”، بيد أن هذا العلم لم يضع له معالم ولم يصغ له الأطر ولا المعارف، وظل مجرد حكم عابر قدّمه مالك بن نبي حتى يتجاوز ظاهرة الدروشة والتصوف السلبي. ونحن في هذا المقام، نعتقد أن العالم الإسلامي لا يحتاج إلى علم يجدّد الصلة بالله، بل يحتاج إلى علم يجسّد الصلة بالله.
تلك هي بعض الأفكار التي قدّمتها كمعلم للنقد والتجاوز، ونأمل أن يصبح فكر مالك بن نبي في المستقبل مطية للنقد والتجاوز ونتحرر من منطق قال ويقول.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!