الرأي

بعيدا عن كل نوسطالجيا، ولكن!

أمين الزاوي
  • 6250
  • 36

كثرا كانوا، الكتاب والمسرحيون والجامعيون، الأسماء الأكثر شرفا والأكثر شهرة والأكبر تجربة، من أركان العالم العربي الأربعة، كانوا يجيئون ليحطوا الرحال على أرض الجزائر، حدث ذلك في سنوات الستينات وحتى نهاية السبعينات!

سنوات البهجة وأعراس تذوق طعم الحرية من استعمار دام قرنا وقرابة النصف منه وأعراس بناء الدولة الحديثة المؤسسة على العدالة، كانوا يجيئون الجزائر الكبيرة العظيمة وفي مخيالاتهم تقترن صورة الجزائر الخارجة من حرب مشرفة، هي الحرب الوحيدة التي شرفت العرب في كل حروبهم وهي الوحيدة التي انتصروا فيها، بأسماء كبيرة في الأدب من أمثال محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد ومولود معمري ومفدي زكريا ومن بعدهم عبد القادر علولة وكاكي والأخضر حامينا والطاهر وطار ومحمد خدة وامحمد اسياخم وبشير حاج علي، وكانت صورة الجزائر التي عشقوها متقاطعة ومرتبطة ومتداخلة بصورة المناضلة جميلة بوحيرد، هذه الأخيرة التي شكلت من خلال القيم التي دافعت عنها وبالشجاعة التي أبدتها وبالأنوثة التي حافظت عليها في الشدائد، شكّلت، إضافة نوعية في ثورة الشعرية العربية، تلك الثورة التي بدأ خوضها الشعر منذ الحرب العالمية الثانية، لقد ألهمت جميلة بوحيرد قافلة مِن شعراء مثلوا الانقلاب في الشعر العربي من أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وخليل حاوي ونزار قباني وبدوي الجبل ومحمد الفيتوري وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل … وكذا أخرجت السينما المصرية من مواضيعها الاجتماعية الرومانسية إلى الواقعية السحرية الجديدة مع تجربة يوسف شاهين (صاحب فيلم جميلة).

الجزائر توأم الحرية، هكذا كانت صورة الجزائر عند المثقفين العرب المتنورين، كانت ساحرة للكتاب والمبدعين الأحرار، كانت مرفأ أولئك المثقفين المتمردين الذين يواجهون بصبر وقوة أشكال متعددة للأنظمة الديكتاتورية في بلدانهم.

لقد جاء الجزائر وأقام بأرضها أكبر الكتاب وأعظم رجالات المسرح في البلدان العربية. لكن هل منا أحد اليوم يتذكر الروائي الفلسطيني الكبير أفنان القاسم الذي أقام في أرض الثورة قرابة عشرية كاملة أستاذا ببرج بوعريريج؟ هل منا من لا يزال يتذكر الشاعر السوري المجدد شوقي بغدادي الذي كان ولسنوات أستاذا في مدرسة المعلمين ببوزريعة والذي عليه تخرج كثير من أدبائنا من أمثال القاص محمد صالح حرزالله والشاعر سليمان جوادي والقاص العيد بن عروس وغيرهم…؟ ومن منا يتذكر الشاعر العراقي الحداثي سعدي يوسف الذي تشكل الجزائر وخاصة مدينة سيدي بلعباس التي أقام بها في إقامته الأولى في منتصف الستينات ومدينة باتنة التي أقام بها في الثمانينات منعطف التحول الحقيقي لتجربته الشعرية ومن يقرأ ديوانه (الأخضر بن يوسف ومشاغله) يدرك هذه العلاقة ما بين الجزائر أرض الإقامة والقصيدة في تجددها وتألقها؟

ومن منا يذكر يا ترى الشاعر السوداني الرقيق جيلي عبد الرحمن الذي إذا ما ذكرت ثلاثة أسماء كبيرة في التجربة الأدبية السودانية إلا وذكر اسمه من بينها: الطيب صالح ومحمد الفيتوري وجيلي عبد الرحمن. لقد أقام الشاعر جيلي أستاذا في جامعة الجزائر طويلا، سنوات الثمانينات، ولكنه غادر البلاد وكأنه لم يعش بها ولم يتخرج عليه طلبة هم الآن أساتذة ودراس شعر أو هم شعراء، في حين أسس المثقفون المصريون بالقاهرة بمعية مجموعة من المثقفين والكتاب السودانيين مؤسسة سموها “مؤسسة جيلي عبد الرحمن” تهتم بشعره وبتجاربه في النقد والترجمة والنضال الثقافي أيضا.

ولعل من الأسماء التي أحدثت ضجة ونقاشا أدبيا وسياسيا والتي عاشت وأقامت بالجزائر أذكر الروائي السوري حيدر حيدر الذي جاء مدينة عنابة مدرسا وأحب هذه المدينة حتى أنها ظلت تلاحقه في كثير من نصوصه القصصية والروائية، ولعل رواية “وليمة لأعشاب البحر – نشيد الموت” التي نشرها العام 1988 ببيروت والتي خرجت ضدها مجموعة من المظاهرات يقودها متطرفون يطالبون بإحراق الرواية في الأزهر وشوارع القاهرة نص كتب في الجزائر وفيها يعرض الروائي صورة عن تلك الجزائر الواسعة الكبيرة التي كان يجيئها كل مثقف أو كاتب ضاقت به بلده.

وفي بداية الثمانينات، هروبا من نظام السادات، جاء الجزائر الشاعر المصري الشعبي أحمد فؤاد نجم رفقة المغني المبدع الشيخ إمام. كان وجود هذا الشاعر في الجزائر حدثا ثقافيا متميزا، وقد كان طلبة الجامعات يستقبلون أشعاره المغناة من قبل الشيخ إمام بلهفة شديدة، وكان غالبية الطلبة يحفظن تلك الأشعار التي تكشف الانهيار الذي كانت تتعرض له مصر بعد كامب ديفيد وبسخرية بليغة وحادة.

حين نزل الشاعر أحمد فؤاد نجم بالجزائر تعرف على الممثلة القديرة صونيا وتزوج بها، وتحكي السيدة صونيا بأن أول رغبة كان يريد تحقيقها فؤاد نجم بعد نزوله بالجزائر هي اللقاء بكاتب ياسين، والذي كان معجبا بروايته “نجمة” التي كانت قد ترجمت من قبل المترجمة السورية ملكة أبيض عيسى ونشرت بالقاهرة في بداية الستينات، وتحقق اللقاء بين الأديبين، في سهرة ببيت السيدة صونيا بحي ميسوني بالعاصمة، وقد كان اللقاء غريبا فعلى الرغم من أنهما كانا يتكلمان لغتين مختلفتين، وكأن لا أحد يفهم الآخر، إلا أن القلوب كانت لبعضها، فقد قضيا ليلة كاملة في النقاش والحوار والأخوة.

ولعل هذا اللقاء بين كاتب ياسين وأحمد فؤاد نجم كان بمثابة بداية مد جسر لسد الهوة التي ما فتئت تكبر للأسف ما بين المثقفين المعربين والمفرنسين في بلادنا.

وحين الحديث عن كل هذا الحراك الثقافي والأدبي بين الجزائر الثقافية والأدبية من جهة والمثقفين والأدباء والمسرحيين العرب من جهة ثانية لا بد من ذكر فضل رجل كان يؤمن بالثقافة وبالتنوع والتفتح والإبداع إنه المسرحي المجاهد مصطفى كاتب مهندس كل هذه الديناميكية الثقافية التي جعلت من الجزائر قلعة الثقافة والمثقفين العرب المتورين في الستينات وحتى مطلع الثمانينات.

لكني بحزن كبير أتساءل اليوم لماذا لا أحد من الأدباء أو المثقفين المتميزين العرب يهتم بالجزائر؟ لماذا لم تعد الجزائر جذابة وأخاذة كما كانت لشعراء وأدباء ومسرحيين من عيار سعدي يوسف وجيلي عبد الرحمن وشوقي بغدادي وحيدر حيدر وسعد أردش وألفريد فرج وكرم مطاوع ومحمود أمين العالم ويحيى يخلف و؟؟؟ والله إني حزين حزين!!

مقالات ذات صلة