-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تفاعلاتٌ مجتمعية

عمار يزلي
  • 609
  • 0
تفاعلاتٌ مجتمعية

كان يقال عنا بعد الاستقلال، إننا شعب لا يضحك.. وكان هذا فعلا. لم نكن إلى غاية بداية الثمانينيات نضحك كثيرا وننكّت بالقدر نفسه، الذي هو عليه الحال اليوم. النكتة عندنا كانت قليلة وذات منحى خشن عنيف، عنف الرضوض والكدمات التي اكتنزها الشعب الجزائري خلال حرب التحرير وقبلها في دواخله.

شعبنا بعد الاستقلال كان يضحك قليلا، مخافة أن يبكي كثيرا، حتى إننا كنا حين نضحك في جماعة على نكتة أو قصة، كنا نقول في الأخير: “الله يخرّجها على خير”. كان الضحك شبه ممنوع من الداخل، كنا نخاف من الضحك، بل لا نقدر عليه. أقول هذا ليس تعميما، لأن الضحك كان ممارسة شائعة، ولكن مواضيعه عادة ما كانت تدور حول الألم أو ضحكا تقليديا، نقلا عن شخصية جحا، التي كنا نحمّلها كل المفارقات الرمزية: الدهاء والحكمة، ولكن أيضا البلاهة والغباء. الضحك كان رد فعل لتجاوز القهر والاحتقان والظلم، ونوعا من التخفيف والمتنفّس التعبيري عن الكدمات الداخلية لشعب مأزوم داخليا، لكن الضحك وخاصة النكتة، ستتغير وتتحول إلى نكت اجتماعية ساخرة من الوضع السياسي والاجتماعي بشكل عامّ، إقليما ومحليا خاصة منذ الثمانينيات.

ما حدث، أن الشعب الجزائري عاد إلى الضحك بقوة، ولا نقول عاد إلى الضحك كأنه لم يكن يضحك، عاد ليقاوم، حتى لا يسقط الفرد من القهر، فنحن نضحك على همومنا وعلى أنفسنا، حتى لا نسقط ولا نُصعق، فهي تقوية نفسية وصمام أمان أمام السقوط.. أوَلا يقال: “إن من الهم ما يضحك؟”. كما أعتبر أن الشعب الذي ينكّت كثيرا هو شعبٌ قوي، مقاوم، لا يريد السقوط.. إنه يقاوم سلميا وفنّيا وتعبيرا عن كل أشكل الظلم والهيمنة.

نلاحظ اليوم، مع تنامي التفاعل الرقمي الافتراضي، كيف أن إعادة النشر أو ما يسمى “الاقتسام”، “البارطاج” مجاني، ولا يراعي حق الملكية، لأنك أنت حين تنشر في العادة صورة أو تقاسم خبرا أو منشورا أو نكتة في شكل نص أو صورة ثابتة أو فيديو أو صورة مركّبة، فأنت تقوم بالفعل نفسه سابقا في نشر النكتة عن طريق البوز.. Buzz، أي التوزيع من فم إلى أذن. لكن، هذه المرة، على نطاق أوسع، بفعل شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الهواتف الفردية الذكية، إذ أصبح كل فرد منتجا وموزِّعا ومتقاسما ومشاركا فاعلا، بعيدا عن النخب، وبعيدا عن المثقف المبدع، الذي أصبح فقط جزءا من هذا الكل، وسط ضوضاء الإبداع الشعبي العارم. المثقف المبدع، المهني، الحرفي، هو الآن جزء من كل، ربما نسمي هذا الجو “الديمقراطية الشعبوية الافتراضية”، لأنها سمحت للجميع بأن يكون مبدعا ومنتجا ومعلقا ومعيدا وبائعا ومشتريا، أي فاعلا ومتفاعلا.

هذا التفاعلية الافتراضية، لها فاعليتها الآنية المرحلية، فهي تعمل على رواج الإنتاج: إنتاج للسوق، مهما كانت طبيعته ودرجة جودته. لهذا، تجد في سوق التواصل الاجتماعي الغث منه أكثر من السمين، وتجد الشعبوية طاغية، لأن ذلك انعكاس لشعبوية مهيمنة في الواقع، الهدف منها عادة يكون نفعيا ماديا. المثقف الواعي المبدع المفكر، لم يعد مجاله هنا سوى دراسة هذا التوجه العامّ الشعبي التجاري التبادلي، الذي صار يمثل الصحافة الصفراء اليوم.. إنه لا يمثل الصحافة ولا الإعلام، لافتقاره إلى المهنية وأخلاق المهنة وضوابط المهنة، لكنها منابر ووسائط لأشكال تعبيرية قديمة في ثوب جديد، لا يمكنها أن تزيح المثقف، بل تريحه، لأنه سيجد فيها مادة لإبداعه في ما بعد، لأن المفكر المبدع لا يفكر في اللحظة الآنية، بل يفكر في ما قبل، وفي ما بعد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!