الرأي

تهافتُ الفرْقة النّاجيّة والمُجتمع المُفيد!

أبو جرة سلطاني
  • 1108
  • 13

أعداء الوسطيّة أربعة: الاستبداد. والتعصّب. والتّقليد. والثّقافة المُهيكلة؛ فالاستبداد يصادر العقل، والتعصّب يحجب الحقيقة، والتّقليد يستنسخ الماضي، والثّقافة المُهيْكلة تصنع قالبا نمطيّا جامدا يدور فيه عددٌ قليل من المهيكلين إيديولوجيّا، يعتقدون أنهم هم الحقّ وغيرهم الباطل. فهم ـ في نظر أنفسهم ـ المجتمع المفيد، أو “الفرقة النّاجيّة”، وهم وحدهم في الجنّة وبقيّة المجتمع في النّار.

والوسطيّة حريّة وحوار وتواصل مع الآخر.. وهي جزءٌ من الحقيقة وليست كل الحقيقة، فالمجتمع أكبر أفرادها، والدّولة أوسع من حدودها، وهوامش الحوار بينها وبين النُّخب تتّسع وتضيق وفْقَ المتاح من “المشترك الأوسع” الذي يضمن للمجتمع الضّرورتيْن الحياتيتيْن:
ـ الإطعام من جوع، بتعاون الجميع على تحقيق الأمن الاقتصادي.
ـ والأمان من خوف، بتأمين الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.. وسائر ما يدخل تحت مفهوم الأمن الاجتماعي.

لكنْ ليس بالطّعام والسّلام وحدهما يعيش الناس، فالإنسان ليس “حيثيّة بيولوجيّة”، وإنما هو ظاهرة اجتماعيّة يميّزها الفكر والحوار والتّنمية وفق منظور إنسانيّ يرفض التّنميط، ويأبَى الذّوبان في “وحدة قياس” يفرضها طرفان متناقضان: أحدهما يعتقد أنه هو وحده “الفرقة النّجيّة”، والثاني يسمّي نفسه “المجتمع المفيد”. وبقيّة الناس غوغاء وغثاء.. ومن عقيدة الطّرفيْن ينبع الاستبداد، والتعصّب، والفكر الإيديولوجي الضيّق الذي يفرض على العقل الدّوران في المقدّس أو في المدنّس. ويروّضه على البراعة في كسب الخصوم، وإعادة بعث الأحقاد من رحم التاريخ، وإنتاج الفكر الإقصائي لكل من لا ينتمي لنادي “المجتمع المفيد” أو لزمرة “الفرقة الناجيّة”. فصديق الأوّل عدوّ الثاني، والعكس. والمصلحة هي مصلحة أفرادهم فقط، فلا قيمة للمجتمع ولا اعتبار للدّولة. فهم وحدهم الوجود وباقي العالم عدم يجب حبسُه أو قتله أو نفيه من الأرض.
تصوّرهم للحوار هو قبولك الدّخول في هيكلهم الضيّق. وطريقة عملهم في الميدان هو كسْب مزيد من الأنصار لزمرتهم، ولو على حساب المصلحة العامّة. فهم لا يهتمّون كثيرا بحجم الأضرار المترتّبة عن تضخيم تطرّف يقابله غلوٌّ. وليس في وارد ذهنهم اسْتشراِفُ مستقبلي يساهم في توسيع دائرة المشترَكات الكبرى، دون أحكام مسبقة على الرّأي، ولا قيود إداريّة على الفكر، ولا ألوان إيديولوجيّة على القناعات، ولا توجّس من أصوات غوغائيّة تتربّص بالمخالِف العقوبة.

في البلدان التي ابتليت بنيْر الاحتلال، تصبح اللغة والهويّة ـ بعد التّحريرـ جزءًا من مخلَّفات الاستعمار، ويصبح التّفكير بين المواطنين مَشوبًا بكثير من التوجّس وتبادل الكراهيّة. ولأنّ البيئة الثّقافيّة لأيّ أمّة يدخل في مكوّناتها الإرث التّاريخي لمحتلّ الأمس، الذي يسمّيه البعض”غنيمة حرب”! فإنّ معركة تحرير هذه الأوطان من دعاة التطرّفيْن معا لا تكتمل بمجرّد جلاء آخر عسكري من أرض الوطن، وغلق آخر سجن من سجون المستعمِر ومعتقلاته وثّكناته.. بل يجب أنْ تستمرّ معركة الاستقلال اللغوي والثقافي والتّاريخي، بعد نهاية حرب التحرير إلى نصف قرن، لنزع ترسّبات الاستلاب الحضاري ومواجهة تطرّف العرقيات التي يزرعها محتلّ الأمس بأسماء حاملة لفيروس العنصريّة، فحديث الفرقة الناجيّة عنصريّة دينيّة، وحديث المجتمع المفيد عنصريّة سياسيّة، وكلاهما متهافت ومردود. والأمر بحاجة إلى حوار واسع غايته.
ـ إعادة تشكيل الشّخصيّة الوطنيّة على المشترَك الأوسع بين المتساكنين حقوقا وواجبات.
ـ والعمل على تصفيّة التّركة الاستعماريّة من التبعيّة للتّاريخ الكولونيالي.

الطّريق إلى طيّ صفحة التعصّب للفكرة والرّأي والشّخص.. تمرّ وجوبا من بوابة الحوار لتذويب طبقات الجليد الإيديولوجي بين النّخب، وتخطّي ثقافة الأحكام الجاهزة دون سماع ولا دليل ولا حجّة. والاتفاق على الهدف المشترَك الأكبر (حقوق المواطنة: مكوّنات الهويّة وعناصر السيّادة) لترْسيم أوسع فضاء مشترك يستوعب أكبر قدر ممكن من أبناء الوطن، بعيدا عن الأنماط المُهيكَلة إداريّا باسم المجتمع المفيد، والمُصطفّة إيديولوجيّا باسم الفرقة النّجيّة، فذانك فضاءان ضيّقان لا يصلحان وعاءً للحوار بين أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن محاورة الآخر. بسبب الحواجز النّفسيّة التي صنعتها الثّقافة الملوَّنة لمنع النّخب من التّواصل مع بعضها، إلاّ في مجال مغلق تحدّده الأشكال التّنظيميّة لعدد محدود من الأعضاء المنخرطين أو المتعاطفين مع هذا التيار أو ذاك. أما بقيّة أفراد المجتمع فيوضعون على رفوف الانتظار، ريثما تتاح لبعضهم فرصة للتّعبير عن الرّأي بمناسبة التّرويج لبعض النّشاطات الموسميّة الخارجة عن عزائم الفرقة النّاجيّة، وعن رخص المجتمع المفيد.

في هذه الفضاءات النّمطيّة المُغلقة إيديولوجيّا، يجد أصحاب الرّأي أنفسهم مغمورين في أمواج الكثرة العدديّة التي تهتمّ فيها التّنظيمات الهرميّة المغلقة بالكمّ على حساب الكيف، وتقدّم الولاء على الكفاءة، وتضيق ذرْعا بالرّأي الذي يناقش الفكرة ويوجّه القناعة ويدعو إلى الحوار المفتوح، ويعيد ترتيب الأولويات، ويضع القواعد الضّابطة لحركة التّفكير والإبداع خارج الأنساق المُلوَّنة بالثّقافة الحزبيّة. فالفكر الحرّ يرتّب المشترك الأوسع قبل اللون الإيديولوجي، ويحيي الإنسان قبل يحرّر الدّين والوطن؛ فمقاصد الشّريعة رتّبت حفظ النّفس أوّلا (الحقّ في الحياة) لتجعل الحريّة هي الدّائرة الأوسع التي تضع الوطن قبل الحزب، والاستقرار قبل المكسب، والولاء للأمّة قبل الولاء للجماعة أو للتّنظيم، والتّواصل مع الدّاخل قبل الخارج، والانتصار للحقّ فوق التعصّب للمِلل والنّحل. وكرامة الإنسان مُقدّمة على تحقيق نجاحات موسميّة وانتصارات سياسيّة، والرأي قبل شجاعة الشّجعان..

ذلك أنّ الحريّة قيمة مركزيّة في حياة الأفراد والجماعات والدّول والأمم.. وأعلى مستويات الحريّة حريّة الرّأي. فإذا حال دونها حزب أو نقابة أو جمعيّة أو تنظيم أو أيّ عارض متطرّف أو متسلّط، فصادرها أو ضيّق على أصحابها تحت أيّ ذريعة، فقد مارس الاستبداد على أهمّ منبع للإنتاج المعرفي وهو العقل (الذي هو أمانة السّماء إلى أهل الأرض). وما وجدنا في التّاريخ مفكّرا واحدا أبدع من داخل أسوار التّنظيمات المغلقة، إلاّ من شذّ فجاء “إبداعُه” وبالاً على البشريّة بسبب اعتقاده بمبدأ خاطئ وهو: أنا.. وبعدي الطّوفان! وهو المبدأ الذي أسّس للفكر الأحادي الذي يخشى الرّأي، ويحارب التّفكير، ويحاصر الإبداع، ويكتم الأنفاس.. ويقدّم الأتباع على الأنصار، والأيدي على الأبصار، والمنفذّين على المفكّرين، والمادحين على النّاصحين.. فإذا جادت الأقدار بمفكّر مبدع، يستشرف المستقبل، ويدعو إلى حماية الملكيّة الفكريّة من دكتاتوريّة: “مَا أُريكُمْ إلاَّ مَا أَرَى”، حاصرته ثقافة التّخوين والتّبديع والتّفسيق.. وواجهه دعاة الظلاميّة وأنصار “التّنوير”.. وعاقبته الغوغاء وحالت بينه وبين إخراج الفكر من قوقعة النّسق الواحد إلى رحاب التعاقد مع الأمّة والتصالح مع المجتمع والدّولة، بالتواصل والحوار والانفتاح.. لتحرير الفكر من منطق إعادة إنتاج البضائع المزجاة.

* مقاصد الشّريعة رتّبت حفظ النّفس أوّلا (الحقّ في الحياة) لتجعل الحريّة هي الدّائرة الأوسع التي تضع الوطن قبل الحزب، والاستقرار قبل المكسب، والولاء للأمّة قبل الولاء للجماعة أو للتّنظيم، والتّواصل مع الدّاخل قبل الخارج، والانتصار للحقّ فوق التعصّب للمِلل والنّحل. وكرامة الإنسان مُقدّمة على تحقيق نجاحات موسميّة وانتصارات سياسيّة، والرأي قبل شجاعة الشّجعان..

مقالات ذات صلة