ثورة نوفمبر والحقيقة التي يراد لها أن تُقبر
كثيرة هي الحقائق التي يراد لها أن توأد وتقبر تحت الثرى، حقائق تتعلّق بتاريخ وحاضر هذا البلد ومستقبله، لعلّ من أهمّها حقيقةَ أنّ الثورة الجزائرية كانت جهادا دينيا، إسلاميّ المنطلق والشّعارات والأهداف، ضدّ مستعمر صليبيّ، سعى قبل إهلاك الحرث والنّسل واستنزاف الخيرات، إلى إبعاد هذه الأمّة عن دينها وطمس هويتها.
حينما انطلقت ثورة نوفمبر على وقع صيحات “الله أكبر”، وأعلنت في أوّل بند من بيانها أنّها تهدف إلى “إقامة الدّولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السّيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، رمى المستعمر الصّليبيّ بكلّ ثقله لتحريف مسار هذه الثّورة، وتفريغها من شعاراتها وأهدافها الإسلاميّة، وأوعز إلى عملائه -الذين ربّاهم على عينه-، أن يجعلوا هذه الغاية على رأس أولوياتهم.
أدرك قادة الجهاد هذه الحقيقة، فجعلوا الهوية الإسلاميّة للثّورة عنوانا لا يقبل المزايدة ولا التّساهل، وكانوا أحرص عليه منهم على أرواحهم، وقد سجّل التّاريخ بأحرف من ذهب أنّ القائد البطل “العقيد عميروش” عليه رحمة الله ـ سليل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ـ ثار على أحد الأطباء في الجبل، حينما كتب عبارة “محاربي جيش التّحرير الوطني”، وأمره أن يكتب بدلا عنها “مجاهدي جيش التّحرير الوطني”.
كما شهد المجاهد “محمد لحمر” -أحد مجاهدي أولاد جلال بولاية بسكرة- أنّ أحد المراقبين خلال ثورة التّحرير جاءه يتفقّد عناصر الجيش الذين كانوا تحت مسؤوليته، وسأله قائلا: ما الشّعار الذي يتعلّمه المجاهدون معك؟ قال: إنّ هؤلاء المجاهدين يعتقدون ويردّدون بأنّهم التحقوا بالثّورة باسم الجهاد في سبيل الله. ولمّا أراد المراقب أن يصرف أذهانهم عن هذا الهدف، ما كان منهم إلا أن ألقوا أسلحتهم، وقالوا بصوت واحد: “إمّا أن نقاتل العدوّ باسم الجهاد في سبيل الله وإما رجعنا من حيث أتينا”.
هكذا كان مجاهدو جيش التّحرير يقفون بالمرصاد لكلّ من يريد أن يفرّغ ثورتهم من بُعدها الإسلاميّ، وينسيهم الغاية التي لأجلها حملوا السّلاح، ولأجلها استعذبوا الموت، حتى قال أحدهم وهو يسْلم الرّوح إلى باريها في ساحات الوغى، قال: “إنّني الآن أموت قرير العين غير آسف على شيء، فالجنّة أمامي والنّصر ورائي”، وقال آخر: “بعد لحظات ستنفلت روحي من هذا الوجود وتلتحق بربّها، ولا شيء يؤسفني لأنّي أموت في سبيل الله”.
وكيف لا تكون هذه حالهم عند الموت وهم الذين كان الواحد منهم يقسم عند التحاقه بالجبال على المصحف الشّريف، بأن يقاتل حتى النّصر أو الشهادة، وهم من كانوا يصطحبون المصاحف للتعبّد بقراءة ما حوته، وطلب الثّبات بتلاوة ما ضمّته، بل قد كان المصحف عند بعضهم زادا أهمّ من زاد الطّعام والشّراب، وقد سجّل التّاريخ أنّ المجاهد البطل العقيد عميروش ـ عليه رحمة الله ـ استشهد وهو يحمل المصحف الشّريف في جيبه، ولعلّه يكون المصحفَ الذي أرسله إليه الشّيخ العربي التبسي، حين طلب منه أن يكتب له وصية يعمل بها في ميادين الجهاد.
هذه هي الحقيقة التي يراد طمسها إرضاءً لقوم لا يرضون إلا باتّباع ملّتهم وسلوك سبيلهم، حقيقة أنّ جهاد آبائنا كان جهادا إسلاميا، لله وفي سبيل الله، وإعزازا لدين الله، نحسبهم كذلك ولا نزكّيهم على الله، ولعلّ ما هو أبلغ في الدّلالة على هذه الحقيقة من كلّ ما سبق، أنّ قادة الجهاد في هذا البلد، كانوا قد أعلنوا أنّهم لن يكتفوا بجعل راية جهادهم راية إسلاميّة، بل إنّهم سيواصلون خوض معركتهم بعد الاستقلال ضدّ الشّيوعيين واللاديننين والمندسّين من أجل دينهم وقيمهم ولغتهم، وقد سجّل بعض المؤرّخين أنّ الشّهيد البطل العقيد عميروش -عليه رحمة الله- بعد لقائه الشيح محمد الصّالح صديق في تونس، وفي لحظة الوداع، أخرج العقيد عميروش ساعة من جيبه فضبطها على ساعته، وأهداها إليه وقال: “خذها لِتَعُدَّ بها أيام الاستعمار الباقية في الجزائر وهي قليلة، وبعد الاستقلال سنخوض معركة أخرى من أجل قِيَمِنا وإسلامنا ولغتنا العربية، فذلك هو الجهاد الأكبر”.
فما أروعها وأحلاها من كلمات، خرجت من قلب رجل صدق الله ما عاهده عليه، نحسبه كذلك، فاختاره الله في ركب الشّهداء، ولم يدرك الاستقلال، ولو أدركه ورأى ما نرى لربّما قال ما قاله الإمام الإبراهيميّ عليه رحمة الله، حينما قام في أوّل جمعة بعد الاستقلال خطيبا في النّاس في مسجد كتشاوة، فكان ممّا قال: “يا معشر الجزائريين! إنّ الاستعمار كالشّيطان الذي قال فيه نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم-: (إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنّه رضي أن يطاع فيما دون ذلك). فهو قد خرج من أرضكم، ولكنّه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها…”.