الرأي

جمهورية من ورق

بغض النظر عما ستنتهي إليه أحداث تركيا، عقب محاولة الانقلاب الدامية، التي أرجعت تركيا إلى عاداتها القديمة، بين مدّ العسكر وجزر المدنيين، منذ أن أسّس الأب الروحي للأتراك، مصطفى كمال، الدولة المدنية العلمانية، المحمية بحديد الجيش، فإن البلد الممتد جسده الضخم في آسيا وقلبه في أوربا، أبان هشاشة، ستجعله يفقد قرونا من سعيه لأجل أن ينضم إلى الاتحاد الأوروبي، وهو هدف كل من يقوده، من جيش وحكومة.

لقد تدخل رجب أردوغان في الكثير من البلدان المجاورة والبعيدة، مثل ليبيا وسوريا، ولم يختلف في خطابه “شكلا ومضمونا” عن القوى الكبرى، وهو لم يأمن على بلاده من الانفصاليين الأكراد ومن الإرهابيين وحتى من هذه القوى الكبرى التي كانت تشجعه. فأسقط طائرة روسية وافتخر بإنجازه، ثم راح يقدّم اعتذاره علنا للروس، ويستعد للتعويض المادي والمعنوي، ووصف بشار الأسد بالإرهابي والديكتاتوري الذي قهر شعبه، وساهم في محاولة القضاء عليه، ثم عاد ليقول بأنه لا يمانع في تمتين العلاقات معه، واستقبل إخوان مصر، وسمّى ما حدث فيها بالانقلاب، ومدّ جسور العلاقات مع عبد الفتاح السيسي، و”تعنتر” أمام المستبد الصهيوني الذي قتل أبناءه في البحر، ثم سارع لتمتين علاقاته الاقتصادية والأمنية مع هذا الكيان، وهو ما جعل هذا البلد الذي يمدّ يده اليسرى للشرق ليبيعهم القماش والمسلسلات العاطفية وحريم السلطان، ويمدّ يده اليمنى للغرب، طلبا لجذبه إلى “جنة” الإتحاد الأوروبي، يسقط في فخّ هذا التحذير الشديد اللهجة، الذي لا رسالة منه، سوى أن جرّ تركيا إلى “الشتاء” العربي سواء بأزمة أكراد داخلية أو إرهاب داعشي أو نسف الأمن فيه، بقبضة العسكر، لا يوجد أسهل منه وفي ظرف سويعات، كما حدث في جمعة أول أمس.

الحلم الأوروبي الذي زرعه ذات سنة 1923 مصطفى كمال، وسار على “أضغاثه” كل الرؤساء على مدار أكثر من تسعين حولا، يبدو أن المستقيل “دافيد كامرون” لخّصه قبل استقالته وقبل انسحاب انجلترا من الاتحاد الأوروبي، عندما قال بأن تركيا لن تنضم لاتحاد القارة العجوز قبل سنة 3000، والدليل على ذلك أنها صارت تصنع الحدث الأمني والدامي في الأيام الأخيرة، من هزات سياسية كما حدث لها مع روسيا ومع الدولة العبرية، ومرورا بالضربات الموجعة القادمة من أكراد ومن تنظيم الدولة الإرهابي، وانتهاء بتعريض وجود تركيا للخطر من خلال أعراض حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.

أنصار الانقلاب يقولون بأنهم خسروا معركة ولم يخسروا حربا، وسيعيدون الكرّة حتى ينجحوا، وأنصار السلطة المدنية الحاكمة يقولون بأن محاولة الانقلاب كشفت الخونة، وحان موعد تصفية الحسابات وسيكونون أكثر قوة من ذي قبل، وبين هذا الطرف وذاك، يتشبث الجميع بعلمانية الدولة، والسعي لأجل “أوروبيتها”، وستكون تركيا إما دولة عسكرية يحكمها من لا يظهرون في الصورة، أو دولة مدنية تصدّر للغرب “قلب عاشق كل جميل” في أوربا، وللشرق الحجاب “الإسلامي” الخاص بالسباحة، وحلقات العشق الممنوع؟

مقالات ذات صلة